التطير
اقتسم القوم مع الجن ما خولهم الله من متاع الدنيا فعرفوا لهم جهة من البيوت وأنماطا من السلوك والأشياء وغير ذلك مما يطول ذكره، فتجنبوا الكل للنجاة من الجن، وما أزال أجد صعوبة في إفهام أشخاص متعلمين أن الجن من عالم الغيب، وهذا لا سبيل إلى إدراكه بالحواس ومن ثم فلا يوجد عنه مما يمكن الوثوق به واعتقاده إلا ما جاء عن طريق الوحي!
ومن المعلوم في علم النفس أن الخيال كالهواء يعمر الفراغ؛ فكلما شحت المعلومات فاض الخيال أو العكس فالعكس، علاوة على أن الإنسان البدوي يجد نفسه حلقة في فلاة ومن فطرة النفس خوف المجهول الذي تتوسع في تهويله أو تخترعه اختراعا.
وقد تجاوز الأمر الخيال الشعبي فاستوطن عقول النخبة! ففي بعض كتب الفقه كراهة عقد الزواج صدر النهار دون تأصيل شرعي مقبول. وغالبا ما يتجنب البعض الزواج في رجب وشعبان، فإذا نبهوا على خطئهم استشهدوا بالقول: “لامة لكصار ألا تگصار وللَّ تمرار” وكأنهم جاؤوا بنص قطعي الورود قطعي الدلالة!
كان أحدهم إذا أراد السفر اختار يوما يراه ميمونا (كثيرا ما يكون الاثنين) وبث في طريقه أشخاصا مختارين ذوي منابت طيبة وأسماء حسان الدلالة، وخصوصا الأخير منهم. ومرة أراد السفر فعمل ما يعمل في العادة، وتعمد أن يكون آخرهم مراهقا شديد الاتصاف بما يتفاءل الرجل به (لكنه مشاكس!).
مر بالأول فسلم عليه وسأله: من أنت؟ فأجابه: أنا محمد محمود بن اعلي سالم، فقال: الحمد لله، حَمدنا وحُمِدنا وعلونا وسلمنا، ثم مر بالثاني كذلك فازداد انشراحه ونشط إلى بغيته، وحين ألقى سؤاله التقليدي على الثالث لم يذكر اسمه ونسبه الحقيقيين وإنما أجابه أنه فلان الفلاني، وسمى رجلا من أسوأ الناس دينا، كان فتيان القوم إذا أرادوا طرده تداعوا للصلاة فينسحب دون مقدمة!
عاد الرجل وحط رحله وقيد بعيره وألغى سفره واكتفى من الغنيمة بالإياب لمجرد ذكر اسم غير محبب إليه. ولله في خلقه شؤون!