قال يحيى بن معين: “إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطُّوا رحالهم في الجنة منذ أكثر من مائتي سنة”.
أتذكر هذه الكلمات كلما أحوجني الكلام إلى أن أشير إلى خطأ في أداء أحد السابقين من أهل الله: أهل القرآن، أو أحد المعاصرين ممن فاقني علما وفضلا وعناية بكتاب الله؛ علما وتعليما وعملا.. إنها كلمات مُخرسة، تُلقم أمثالي من المتجاسرين على أهل الله الحجارة والتراب، لو كنا نفقه.. إن التأدب مع أهل القرآن فرض لازم، وعليه تربينا، وبه تعلمنا. وقد قيل: “ألحن من قارئ”، ولن أقرأ أو يقرأ مثلي السورة القصيرة أو الثمن القرآني؛ إلا وأخطأ أخطاءً فادحة، ربما يكون انشغاله بها أولى من تطاوله على أسياده.. والناقد حيث كان بصير.
عندما أتوقف عند هذه المقدمة الصحيحة في ذاتها، ويتوقف معي غيري، سيتوقف الكثير من العلم، والتطور الدائب المطرد للعلوم جميعا وللأداء القرآني خاصة.. غير أن بين سيئتي الإفراط والتفريط دائما هناك حسنة التوسط، والتي أسأل الله لي ولجميع العاملين على خدمة هذا الدين من كل جانب، أن نوفق إليها مع الإخلاص..
أجدني دائما أستسهل أن أقول إن السلف المغاربي عموما لم يهتم كثيرا بالأداء، أو اهتمّ به لكنه لم يصل مرحلة الإتقان، التي انفرد بها المصريون عبر العصور، والمشارقة عموما. أعلم أن لي سلفا فيما ذهبت إليه، لكنه يحز في نفسي أن أقولها، وأعلم أن هناك غيري ممن يستثقلها.. لكن الحق مرّ، والأمر يقتضي منا التجرد، والوقوف بعيدا عن الأشياء حتى نحكم عليها بشكل صحيح. لكن دعونا لا نذهب بعيدا فنبحث عن حلّ وسط، يُسكت الدليل فيه الجميعَ فنقول: الذين أدركناهم أو سمعنا تسجيلاتهم من المشرقيين؛ هم أكثر إتقانا في أدائهم من المغاربيّين، والأشرطة والتسجيلات تحكم.
ليس عامة المشرقيين أفصح من عامة المغاربة، فلكل لهجته التي تقترب أو تبتعد من اللغة الفصحى، وهذا لا ينكره مكابر؛ لكن خاصة القراء المشارقة أمهر في الأداء وأنقى حروفا وأصقل أحكاما غالبا من نظرائهم المغاربيّين، وإن كانت العقود الأخيرة شهدت ثورة قرآنية؛ أنتجت قراء مهرة في بلاد المغاربة، كان لنا في موريتانيا نصيب لا يستقل به.. وإن كنا نطمع ونطمح لأكثر من ذلك.. لقد كان لجهود الشيخ ولد الشيخ أحمد وغيره من كبار العلماء المجِيزين دور هام في نشر التجويد والاهتمام بجمال الأداء وإتقانه.. ثم جاءت إذاعة القرآن وقرائها المميزين ومسابقاتها، والتي أحمت التنافس الإيجابي خدمة لكتاب الله العزيز.. والحمد لله أولا وأخيرا.
كل هذا جعلنا نستبشر خيرا بالواقع القرآني في بلدنا، وليست الدعوة الأخيرة إلى “الأغباد” الموريتاني الأصيل؛ إلا إشارة إلى بداية تشكل نضج قرآنيّ حقيقي، سنلمس نتائجه قريبا، إذا أذن الله.. ولم يعد ينقصنا إلا العناية الحكومية وعناية كبار التجار والمنفقين بدعم “الأغباد” وإحيائه. فكما أن المسابقات الدولية كانت من عوامل انتشار القراءة المشرقية؛ فإن “الضربة” أو “النغمة” الموريتانية في القراءة (أغباد) لن تنضج وتنتشر إلا بالمسابقات والتي دائما تنتج قراء مهرة، ذوي أصوات شجية، كفيلة بزرع محبة القرآن في القلوب الناشئة.
ليس مجرد التعصب “لأغباد” والنفخ فيه بوصفه “قراءة موريتانية” كافيين لفرضه على الساحة القرآنية، المحلية والدولية، كلا.. فلا يصح إلا الصحيح. وليس “أغباد” وإن طرب له من طرب، وتعصب له من تعصب؛ قراءة تزاحم قراءة نافع وشعبة وغيرهما من متواتر القراءات. إنه مجرد تحبير للقرآن على طريقة موريتانية، لنا أن نتمسك به في حدود احترام القواعد التجويدية.
يحضرني هنا سؤال الأخ الحبيب محمد الجعفري المكي عن تعريف “أغباد” أو “أقباد”.. لست أهلا لأن أعرفه. لكنني أعرف هذا الجذر في استخدامات حسّانية قليلة، باستقرائها؛ يمكنني أن أجد تعريفا أو أساهم في إيجاده، فأقول: عندما يريد المعلم من تلميذه أن يقرأ بصوت مرتفع واضح الحروف والكلمات، يقول له: “أغْبَدْ” أو “أقبد”. فيقولون المعلم (غَبّدْ) تلميذه، وفلان أغَبّادُ(ه) زين! أي هو جميل القراءة للقرآن واضحها.. ويقول المنفعلُ: من الصباح وأنا (أغْبَدْ) عليك بهذه القصة.
أستخلص ممّا سبق أن أغباد هو ترتيل القرآن، وتحبيره، وتحسين القراءة، مع تسميع لها على غير نشاز، مستحب عندهم، فقل أن يخرج “أغباد” عن طبقتي “الجواب” و”جواب الجواب”. وإنك إن اقتربت من محاظر القرآن فستسمع أصوات طلابها محلقة إلى السماء بكل حرية، لا صوت يعلو على أصواتها.
عود على بدء؛ أقول: يكثر في عموم قرائنا، تأثرا باللهجة الحسانية، ترقيق غالب الحروف المستحقة للتفخيم وغيرها، مع تفخيم لأحرف مستحقة للترقيق بسبب مجاورة مفخم، مثل الحاء من “الحق”. أما الغنة في محالّها، والإخفاء في محاله، والإقلاب والإدغام؛ فإنها وإن كانت احكام بدائية يتقنها المبتدئون، فإن الكثير من القراء المهرة لا يلقي لها بالا، أو يتساهل في أدائها. فمرة يأتي بها ومرة لا يفعل.. أما التفاوت في الغنة والتفخيم وغيرهما من الأحكام الدقيقة، فقل من يهتم بها، إن كان يوجد. ودعني من الأحرف الصعبة في ذاتها، مثل: الهمزة والضاد والراء.. أو الحروف الصعبة علينا نحن البظان خاصة، مثل: الصاد والقاف والغين والثاء والفاء.. أما الجيم فقد جعلها التعصب إما جيما شديدة أورثها التفخيم عجمة وجدتها تنتظرها هنا في بلادنا، أو كانت جيما متفشية، وإن كانت لم يقرأ بها القرآن؛ فهي عربية قحة. وقد نبهني الشيخ مولود ولد عبد العزيز المدني، حين سألته إن كان أهل المشرق عرفوا سجالا على الجيم مثلما عرفنا، فقال لي: إن أغلب السجالات حول هذه الحروف والذي منع من إحكام نطقها نطقا صحيحا هو شديد التعصب، فلو طرحت التعصب لوجدت الخلاف بين أهلها يسير ونطقهم لها متقارب..