لا أبالي كيف سيُقرأ العنوان؛ بل ولا بسلامته اللغوية (على غير العادة) فالتورية متعمدة، وهنا مركن الحاسوب (لا مربط الفرس).
مررت من هنا طفلا ذهابا وإيابا قبل 45 عاما (1977) فرأيت مباني تاريخية ومظاهر شعبية لا تشذ عن المألوف يومئذ. وغبت أحقابا إلى أن مررت كهلا في ترحالي الاستشفائي (من إبريل 2015 حتى الآن) فوجدت كل شيء تغير! أصبحت أدخلها تحلة القسم من طرفها الشمالي الشرقي ثم أُنَكِّب شرقا – محكوما بالطريق- فأمر بينها وبين فرع النهر متسليا بمرأى الجسر الحديدي المعطل عن بعد، أو بالتقاط صورة لأحد المشاهد إلى أن أعاود دخول طرفها الجنوبي الشرقي على استحياء فأخرج إلى تلال الملح من بين الزوارق المترنحة وبرج المياه الذي عاينته في مختلف مراحل إنشائه.
مدينة سنغالية الجنسية والملامح، موريتانية التاريخ والهوى، رفدت الثقافة العربية الحسانية بما لم ترفدها به مدن موريتانية خالصة، وكانت بلادنا تدار منها أيام الفرنسيين، ومنها انطلق بثها الإذاعي، ومنها خرجت نواة الدولة الوطنية، وكان بعضها ضمن حدودنا الترابية حينا من الدهر.
سماها أهل الأرض اندر، ثم جاء الرجل الأبيض فأرغمها أن تحمل صليب “القديس” لويس (Saint − Louis) وقد ولجتْ أدب الموريتانيين بالاسمين:
– اندر ألاَّ من كيف ان جيت ** فيه اعليَّ لحزيم اندر
اُفيه اندرت اعلَ تافلويــــت ** ما گط اعليهَ حد اندر.
– بعون الله عن عجل سنلوي ** صدور اليعملات إلى سنلوي.
(أو صدور العيس عنك)
هنا ترك بنو وطني ذكريات خالدة، وقصصا وأشعارا تفوق حمياها خمور الأندرين في نفوس أصحاب قابلية “قلة الصحة” مثلي.
حين أمر من هنا أرجع الطرف كرتين علّي أرى الأمير أحمد سالم ولد ابراهيم السالم أو الأديب محمد ولد هدار رائيا له:
مول الملك الحي السبحان ** تــــباركَ وتـــعالَ
درْجَه عاطيهَ ما تنهان ** ما جابر حد الْذاك آلَ
طَرُّو حاله ذاك الِّ بـانْ ** أحمد سالم يالرجــالَ
ذاك أمير الدرجه والشان ** تتگامط بيه الزمالَ
مستگبل نافـد مــــورتان ** امكرطي من ساحل صالَ
فوگُ ظـــــــلاَّلَ فاردان ** والدرجه فوگ الظلاَّلَ
ذيك الحاله من فـم اتبان ** هي حــالة ذيك الحالَ!
(مورتان عَلَم شعبي للمكاتب التي كانت بلادنا تدار منها هنا).
أو أصادف الأمير المجاهد سيد أحمد ابن عيده أيام ضيافته الرقابية لدى ابن ابن المقداد، أو أسمع مساجلة بين الأخير وبين الأمير عبد الرحمن بن بكار.. من هنا مر كبار الأمراء والأدباء.. هنا انعقدت مجالس الأدب والطرب تحت مظلتي الثقافة والتجسس.. هنا أقام دودو سك المتلقب محمدٍ ولد ابن المقداد البراهين على “سلامة صدور” قومي أيام كان يعُدّ أنفاسهم ويوافي أولياء نعمته بالتقارير الحاقدة عنهم (وأرشيف المستعمر شر شاهد) ويكرمهم من مال المستعمرين وهم يمدحونه ويساجلونه ويمجدونه بدرر شادت له صورة براقة في الأذهان.
يوم ان تمرگ ذي الدار صاد ** لازم عن تيدنيت امـ
ـحـــــمد تيـــتم والديـــن زاد ** ييتم والضعفه تيــتم!
هنا سوق بئر المرأة (تين جگين) ولوضه وجسر آل محمد لحبيب.. هنا الغموض الذي يختصره المثل الشعبي “إگيس اندر ال ما جاب إيگينُ”.
من هنا برز طبق الأرز بالسمك (تيبُ جن) فاقترن بالمكان حتى صار يكفي اجتذابا للطاعمين أن يُكتب على مطعم في بعض بلاد الله “Restaurant Doumou N,dar” ولأن السنغاليين رسموا للمسافرين طرقا لا تعوقهم ولا تزيد زحمة المرور، ثم كوني لا آتي إلا عابر سبيل فنادرا ما أنزل في هذه المدينة المتخمة بالتاريخ والأدب؛ باستثناء مرة يتيمة (حتى الآن) تأخر الانطلاق من معبر القوارب الحدودي فكان الغداء وصلاة الظهر فيها، وأصارحكم بأني لم أجد طبق الأرز بالسمك الذي طعمته فيها إلا كما في بعض مطاعم السنغاليين بانواكشوط، ودون أطباق ياسين انجاي طاهيتنا في دكار!
اندر.. عنوان حكاية طويلة كالطريق إلى دكار، متباينة الفصول كبعض طرق بلادي، غنية كعلاقة الشعبين، متشعبة كفروع النهر التي تخترق المدينة وترسم الكلمات المتقاطعة حولها، صاخبة كغزو أمواج المحيط الناعم لشاطئ المدينة، عميقة كحبي لوطن لا يفتأ يلفظني فأعود إليه.
(دَمَا لَيْن نُّويُّ)