كان العرب قديما أهل أدب وشعر، لكنهم قدسوا الشعر تقديسا خاصا دون غيره من الأجناس الأدبية الأخرى، واحتفوا بالشعراء ورفعوهم مكانا عليا دون غيرهم من رجال المجتمع، وقد كانت القبائل تهنئ نظيراتها عندما ينبغ فيها شاعر؛ فلم يكن لسان الشاعر يقل خطرا عن حسام جريء الحد، أو فرس أَقَبِّ البطن!
كان الشعر ديوان العرب، وحافظ أمجادهم، ووعاء أخبارهم وأيامهم، ومثل غيره من الآداب؛ احتوى على حِكم وقيم إنسانية نبيلة كثيرة، تُعلي من شأن معالي الأمور ومكارم الأخلاق، لكنه لم يسلم أيضا من انحرافات وأباطيل تعارض تلك القيم!
وفي كل مرة عند قراءتنا لكتب التراث الأدبي تطالعنا أبيات شعرية لا تخلو من تناقض مع مبادئ الدين والأخلاق العامة، وربما كان أغلب هذه الأشعار ينتمي للحقبة الجاهلية، حيث غذى مشاعرَ الناس حينها وأفكارَهم استحكامُ الجهل، والانتماء الأعمى للقبيلة، وهو أمر حَدّ منه الإسلام، وهذبه الانتماء إلى الدولة المدنية فيما بعد…
لكن هذه الأبيات ما زالت تتردد في حاضرنا اليوم على ألسنة العامة وحتى الخاصة، يبررون بها أعمالهم وتصرفاتهم المشينة، ويبعدون بها عن أنفسهم التهم، وحتى لو كان الشاعر في الأصل لم يقصد المعنى الذي توجه إليه هذه الأبيات اليوم، استنادا للسياق الذي قيلت فيه وموضوع القصيدة، فإن ذلك لم يشفع لها، فقد انحرف بها الناس عن مسارها واستُغلت أسوأ استغلال.
ولئن كان بعض الأدباء والنقاد وجد لهؤلاء مخارج مستحسنة، فإنهم لن يجدوا مفرا من المعنى الكارثي الذي تستخدمها الناس لأجله، لتأدية مشاعرهم وأفكارهم التى رأوا أنها تتقاطع مع مضمون الأبيات على أساس المعنى الظاهر منها الذي لا يقبل التأويل.
ولنأخذ نموذجا من مظاهر ذلك الانحراف في العصر الجاهلي، حيث يقول الشاعر قيس بن الخطيم:
إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ** يراد الفتى كيما يضر وينفعا
من ينزه الجاهلي ويجله عن الخطإ يفسر البيت بقوله: “إذا لم تنفع الصديق فضر العدو”، ويعلل ذلك بأن العاقل لا يمكن أن يأمر بالضر مطلقا، ولكن ربما فات عليه أن العقلاء يخطئون ويصيبون، وخصوصا الشعراء منهم؛ لأن لهم سلوكهم الخاص ونزواتهم العابرة!
والحقيقة أن هذا المعنى، على حد تعبير صاحب كتاب “الأخلاق في القرآن الكريم”، “لا يعدو كونه شعارا تمليه الغريزة العمياء لا العقل الواعي المستنير”، هذا فيما يرى آخرون أن الشاعر هنا ربما قصد بذلك الجهد، بغض النظر عما سيؤول إليه من نفع أو ضر، وهو تبرير يحيلنا إلى مبحث فلسفي نتساءل فيه: هل نربط الجهد بمتعلقه الذي هو بطبيعته إما خير أو شر، فيقيم على أساسه، أم يجب الفصل بينهما؟
ومن المؤكد أن الجهد لا يمكن أن يكتسب قيمته إلا من متعلقة، “بل إن الجهد ليست له قيمة أخلاقية إلا من حيث هو وسيلة لتحقيق الخير والنفع الأخلاقي”، وعليه فإن إمكانية فصل الجهد عن متعلقه بعيدة، وبذلك يكون التفسير أبعد ما يكون من الصواب،
سارت مشرقة وسرت مغربا ** شتان بين مشرق ومغرب
وفضلا عن ذلك فإن مضمون البيت يخالف تعاليم الإسلام، الذي وضع حدا للترهات في الشعر الجاهلي، فدعا إلى فعل الخير وكف الضر، ف(لا ضرر ولا ضرار)، ومن الجانب الآخر (لا تحقرن من المعروف شيئا)، فالضر مأمور بكفه مطلقا، سواء كان المأمور قادرا على النفع أو غير قادر عليه، أما النفع فمأمور بالسعي فيه لمن قدر عليه، بل ورد الأمر بمقابلة الإساءة بالإحسان، فالذين لحقك منهم ضر لا ينبغي أن تمتنع عن نفعهم، وفي قصة الصديق رضي الله عنه حين قطع معروفا عن ابن خالته مسطح بن أثاثة، بسبب خوضه في الإفك، ما يدل على ذلك، وفي ذلك نزلت الآية الكريمة:{ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يأتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله}.
وعلى عكس ما ذهب إليه الشاعر؛ فإنه يجب علينا أن نعامل الناس على مبدإ “إذا لم تنفع فلا تضر”.
وغير بعيد من هذا المنحى نجد قول دريد بن الصمة:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت وإن ترشد غزية أرشد
حاول بعض الدارسين للتراث العربي تسويغ هذه المقولة، باعتبار أن الشاعر قصد التأكيد على أهمية اللحمة القبلية والاجتماعية، وعدم التعصب للرأي الواحد، وهذا مبدأ إسلامي وديمقراطي تشاوري نبيل، فيد الله مع الجماعة والحكم للأكثرية…
لكن لب الخلل قد لا يكون في تلك النقطة بالضبط، وإنما في العلاقة بين الرشد والغي، اللذين تجرأ الشاعر على ذكرهما والجمع بينهما، وهو في غزوة سلب وفتك، كيف يمكن الجمع بينهما في شخص واحد؟ هل بإمكان أحد أن يكون مسلما وكافرا أو عاقلا وأحمق؟ إنها صفات متناقضة ومتنافرة لا يمكن الجمع بينها.
إن هذا المبدأ لا شك في أنه هو الآخر ليس مبدأ سليما، ولا شعارا نبيلا، فما هو إلا قتل للقيم وتمييع لها، و الحق أنه لا ينبغي أن يدفعك الانتماء القبلي أو الطائفي أو الحزبي لأن تنحاز للباطل على حساب الحق، وفي الحديث: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، ونصره ظالما هو أن ترده عن الظلم، فالباطل يبقى باطلا حتى ولو اجتمع عليه العالم كله، والحقيقة حقيقة ولو تخلى عنها الناس كلهم.
ومن نماذج هذا المنحى أيضا ما نجده في معلقة الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى، وذلك حين يقول:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ** يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
لا خلاف في أن الدفاع عن النفس أمر مشروع، وعليه لا يمكن لأحد أن يعترض على مضمون الشطر الأول من البيت، ولكن ما الذي جعل زهيرا يعتبر أن من لم يظلم الناس سيتعرض للظلم؟
هذا هو المعنى المستهلك لدى المستدلين بهذا الشطر، بغض النظر عن السياق والمناسبة والموضوع العام للقصيدة، الذي يتمحور حول ذم الحرب والدعوة إلى السلم، فالشعر القديم لا يولي أهمية للوحدة العضوية.
وهو طبعا اعتبار مخالف تماما للمبادئ الإسلامية، التي ترفض الظلم، قال تعالى: {لا تظلمون ولا تظلمون}، وفي الحديث القدسي: (ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)، ولا علاقة بين الظلم واتخاذ العدة للدفاع واستعراض القوة، فاللغة ليست فوضى إلى هذا الحد، فهناك بون شاسع بين حق الدفاع النفس والاستعداد لذلك، وبين الإقدام على الظلم.
هذه كلها نماذج تعطيك ملامح اتجاه في الأدب العربي، يقوم على الصراع والتناحر بين المجتمعات بسبب الانتماءات القبلية، وليست هذه الأبيات التي عرجنا عليها إلا جزءا بسيطا منه وما يرتبط بالحقبة الجاهلية منها خاصة، وليس من المستحيل إيجاد ما يمثل هذا الاتجاه في الأدب العربي فيما بعد ظهور الإسلام.
ولكن المطلوب اليوم أن يكون هناك اتجاه يجعل من القيم الدينية والإنسانية أداة للتعارف والتشارك والتدافع والحوار، ويقوم بتصحيح مسار المحتويات الأدبية الضارة، فرغم ما تركته لنا الحقبة الجاهلية من إرث أدبي وافر، مليء بالحكم والقيم والأخلاق الرفيعة، ما زلنا إلى اليوم نستلهم منه، إلا أن بعض محتوياته تتطلب إعادة النظر.
وإذا كان الخاصة يفهمون هذ المحتوى فهما سليما يجعله غير منحرف، فليس الأمر كذلك لدى عامة الناس، الذين لا ذنب لهم سوى أنهم جهلة، ينساقون وراء الخرافات والترهات، ومادام الأمر كذلك وهم المخاطبون، فما الضير في رفضها من أجلهم، بدل اللجوء إلى التكلف في تأويل أقوال شاعر قد تكون صدرت منه وهو تحت تأثير الشراب؟!