(الحلقة الأولى)
اسمها يغني عن التعريف بها واسم عائلتها يغني عن التعريف بمحيطها ومنبتها.. يعرف عنها العزوف عن مقابلات الإعلام المقروء، لكن الأواصر التليدة والعلاقات الوطيدة تخترق الحواجز وتذلل الصعاب..
زرت السيدة النعمة في بيتها العامر فكان هذا الحوار المستفيض الذي تطرق إلى نواح شتى فنية وأدبية وشخصية وعائلية ومجتمعية.. لا أريد الإطالة بتفصيلها تجنبا لشغل القارئ عنها.
سؤال: حبذا لو حدثت قراءنا أولا عن نشأتك وذكريات طفولتك..
جواب: قد لا أتذكر الكثير من التفاصيل، لكني سأحدثك بما تذكرته. ولدت في شمال الترارزه، بالشامي تحديدا – وكان من الترارزه حتى عهد قريب – وأمضيت عامي الأول هناك، ثم عدنا إلى جنوب الولاية.
نشأت مع والديّ اللذين حرصا على تربيتي أنا وإخوتي على أكمل وجه، وقد بدأت بتعلم القرآن العظيم، ثم درست فرض عيني، أما الفن فعلق بي دون قصد ولا تعلم، وواصلت مساري فيه، ويقال إنه ظل في تقدم مستمر. تزوجت أولا في بني عمومتي، ثم في فئات أخرى من علية هذا المجتمع. وانقطعت عن الفن فترتين أو ثلاثا، ثم عدت إليه وواصلته، وفي هذا يقول لي أحد الأدباء:
تَرْكِك للهول الشُّعْرَ راو ** اطلوع الدرجَه يالنرجَه
وامنين ارجعتيلُ ولَّاوْ ** يالنرجَه لِحْدير الدَّرْجَه.
وما زالت أواصل مساري الفني، لكن على نحو مسؤول؛ فلا أغني في كل الأماكن، ولا أقوم بكل ممارسات الفن، ولست من الذين يبرمون التعاقدات، وقد يكون هذا من تقصيري وزهدي. وأحمد الله على أن معارفي وأصدقائي من الناس هم خيرة المجتمع وسادته، ولست على درجة كبيرة من “استگوي” وإنما آخذ منه بقدر ما أرتضي.
سؤال: كانت الألعاب مختلفة جدا عما هي الآن.. ما هي الألعاب التي مارستها في الصغر؟
جواب: كنت أحب “السِّيگ” وأكون عصبية حين أكون مغلوبة فيه، ونادرا ما آتي بـ”حمار” لكن قد يقع ذلك، وأحب “أم اديار” تارة أَغْلِب فيها وتارة أُغلَب، وأحيانا “أنكر” (تعبير عن نفاد الرصيد في تلك اللعبة) وأستاء من ذلك، وربما حاولت “ظامه” إلا أني لم أرها لعبة نسائية، ولذا لم أتقدم فيها، لكن تعجبني “اخريبگه” وتمتعني.
سؤال: وهل كنت تمارسين “أم ارويغيات”؟
جواب: جدا.. لكن بشكل محترم.
سؤال: كل من والديك قدوة بمفرده، وأنت جمعتِهما، ومن خلالهما تجذرت في آل الشويخ، فماذا استفدت من كل منهما؟
جواب: استفدت الكثير من كل منهما.. فمن تكيبر استفدت فنها وأخلاقها الحميدة، وكان لها نصيب معرفي، وكانت عابدة. وكذلك والدي (محمد ابن الشويخ) ففيه يقول بزيد ولد هدار:
مُحَمَّلْ أُوَّيْخْ الشّعّار ** واحد منهم غير أزين حس
منهم وادَّبْ وأگل أخبار ** منهم واَطْيَبْ منهم مجلس.
وأنا يقول لي أحمدُّ بنبه الملقب لكويري، وكان قد طلب مني عطرا محبوبا آنذاك يسمى “أسكي” – وهو لفظ يعبر عن الاستحسان في الحسانية – فوهبته زجاجات من العطر المذكور فقال:
جَمْعْ الخلق أسْكِيه عندك ** يالنعمه راعيه
وانتيَّ باسكيك وحدك ** ماهي كيف أسكيه
طاك الله أذيك مَهنَ ** عَتْنَ فازوان واهْنَ
وامع عنُّ طاك عَتْنَ ** فيه ألهنَ فيه
ال جاك إدور لغنَ ** باحمارك تدهيه
وابمالك تحذيه واتنـ ** ـهوليه أتلهيه.
(احمارك، بترقيق الراء: محاكاتك).
سؤال: من الفتيات من يقتدين بأمهاتهن، ومنهن من يقتدين بآبائهن.. من أي القسمين أنت؟
جواب: اقتديت بتكيبر في ناحية الفن، لأن صوتها أحسن من صوت الوالد رحمهما الله، قبل أن تكون لي شخصيتي الفنية الخاصة، لكني اقتديت به في الأدب والرزانة والأناة. لا أستطيع أن أكون مثله، لكني أحاول.
سؤال: هل لديك قدوة أخرى؟
جواب: لا أذكر شخصا معينا، لكن يعجبني قول الأحنف بن قيس حين سئل: ممّن تعلّمت الحلم؟ فقال: من قيس بن عاصم.. إلى آخر القصة المشهورة. لقد استفدت الكثير من كثير من أهل الفضل واقتديت بهم.
سؤال: هل تتذكرين بدايتك الفنية؟ وكيف كانت؟
جواب: أتذكر أن والديّ آثرا عليّ أختي آمنة وأخي دداه، وهما أكبر مني، فكنت أسترق السمع من وراء السرادق (أكورار) إلى ما يعلمانهما واستوعبت منه أكثر مما استوعب أخواي اللذان بذل الوالدان جهدا في تعليمهما!
سؤال: في عصرنا يحتد الخلاف بين من يرى الفن للفن، ومن يرى الالتزام شرطا للفن المحترم.. ما رأيك أنت؟
جواب: لا بد للفن من رسالة خُلُقية، ومن أجلها يجب انتقاء كلماته ومضامينه ليكون حافزا على مكارم الأخلاق صارفا عن مساوئها.. هذا هو الفن وما سواه لا يسمى فنا.
سؤال: تعتزلين الفن حينا ثم تعودين إليه آخر، هل كل من الاعتزال والعودة باقتناع أم لضرورة؟
جواب: كلا الأمرين رأيته صوابا، وكلاهما فعلته عن اقتناع. أعتزله حين لا أراه مناسبا لحالتي الاجتماعية، وحين يزول داعي اعتزاله أعود إلى فني الذي ورثته عن آبائي وأمهاتي وأجدادي وجداتي، فأنا كمن يرحل عن موطنه عند الاقتضاء ثم يعود إليه عند زوال السبب.
سؤال: حين تعتزلين الفن هل كنت على ثقة بأنك ستجدين مكانك محجوزا لك عند ما تعودين إليه؟
جواب: أكون مطمئنة بأني سأجد مكاني بانتظاري وجمهوري متعطشا إلي.
سؤال: هل تفكرين في اعتزال الفن نهائيا؟
جواب: نعم.. كثيرا ما فكرت في ذلك. سألت مرة العلامة محمد سالم ولد عدود، وهو القائل لي:
طبعك زين أزين دينك ** طبعك زين الدين
اُذاتك زينه واردينك ** زين أحسك زين.
قال هذا تعليقا على “گاف” شيخنا ولد معروف:
لا تَمَّيْنَ واردينك ** يالنعمه فامنين
زين احمارك واردينك ** زين أحسك زين!
(احمارك: بترقيق الراء).
استفتيته مرة في ترك الفن، فإن كان فيه مجد وصيت فقد نلتهما وأود اعتزاله، فأحالني إلى العلامة حمدا ولد التاه، فذهبت إليه فوجدت معه حاكم وادي الناقة آنذاك، ولعل اسمه افَّاهْ، وهو رجل فاضل من أحفاد العلامة المختار بن بونا، وحدثته بما جرى بيني وبين العلامة محمد سالم وأنه أحالني إليه، فقال الحاكم: سأتدخل قبل الشيخ حمدا.. بإمكانك الاستمرار، لكن بصوتك دون عزف، فمازحه الشيخ حمدا بإيراد مثل مشهور، وقال لي: إن غناءك لا يسمعه إلا السعداء، وأنا وولد عدود بحاجة إليه؛ خلافا لرأي السيد الحاكم. “آردين” أمره بسيط عند من يسمع الغناء ويعرف ماهيته ومكوناته وأنه جماد؛ شأنه شأن الطبل والعطر واستنشاق الزهور، ونحن نحتاج إلى فنك. والشيخ حمدا هو الذي يقول لي:
بين عينيك ساحر فتّانُ ** وعلى فيك للهوى عنوان
.. إلى آخر النص المشهور.
وهكذا امتثلت ما قاله لي الشيخان وما زلت متمسكة به، وما زالت لفني شعبية لا بأس بها.
سؤال: لو قدر لك أن تعتزلي الفن نهائيا ماذا تتوقعين أن يكون السبب؟
جواب: قد أعتزله في حالة واحدة لعلها مفهومة. (تضحك).
سؤال: ما الذي تحتاج إليه الأغنية الموريتانية لتكون عالمية؟
جواب: من وجهة نظري لا شيء ينقصها؛ فـ”أزوان” إنما هو “أزوان” الذي يبدأ من “كر” وينتهي في “بيگي” ويتبارى الأدباء في إنشاء الأدب فصيحا وشعبيا فيه وفي أهله، و”أزوان” الحقيقي يجسد أصالة موريتانيا، أما ما يستجد عليه مما هو مستمد من غيره فلا يسمى “أزوان” من وجهة نظري، وإن كنت لا أعيبه؛ بل أراه مهما، فأنا أطرب لجميع ألوان الغناء والموسيقى، وأذوب في كوكب الشرق وأغانيها، ويطربني كثير من فناني الدول الأخرى، لكن الجميع لا يزحزحني عن أصالتي؛ بل أظل متمسكة بها، ولا أرى شيئا منها بديلا لـ”أزوان” ولا أرى نقصا فيه إن بقي على حاله، وأعتقد أن تطويره إنما يتم من داخله، كاستحداث “شور” كما فعلت أنا حين استحدثت “أشوارا” من قبيل “احسي المختار” و”ألَّ ذا كيفي كنت امعاك” و”خالگ شي الانصاف أشبه فيه” و”يَلَّالي ماذا سغمك وراني”.. وكثير مما سوى هذا، استحدثته وقيل لي فيه الكثير من الأدب الرفيع، فالتطوير في رأيي مرادف للاستحداث، لا للتحريف. ولم أر نقصا ولا خللا في “أزوان” بشكله المتوارث فيما أعلمه وما أتناوله من “كر” إلى “بيگي” ولا ما أسمعه مُغَنًّى؛ بل أراه حسنا. هذه وجهة نظري على الأقل.
سؤال: هل ترين أن هذا الإرث الفني التراكمي سيجد في الأجيال اللاحقة من يستوعبه ويحميه ويتمثله ويثمنه؟
جواب: أخاف أن تكون حال الأجيال التالية معه كحال الغراب مع الرخمة (حاول محاكاة مشيتها فلم يحسنها ونسي مشيته فبقي يحجل في مشيه) بل إنهم بدؤوا ذلك بالفعل. ولا أدري إلى أين يذهبون عن فنهم الأصيل؛ فما سواه لا يعدو تقليدا.
سؤال: هل يوجد لون أو مقام غنائي أقرب إلى قلبك من سواه؟
جواب: بالتأكيد؛ هناك ما يلامس شغاف قلبي، مثل “سيني” لأنه مقام روحاني، و”التحرار” و”لبياظ اللين” بالأخص، فالكل روحاني وخفيف على النفس.
سؤال: أحيانا يحس المتلقي بأنك تذوبين في النص الذي تتغنين به، هل هو إحساس صادق أم مجرد تخيل؟
جواب: فعلا.. من النصوص ما أتماهى معه وأذوب فيه حين أغنيه.
سؤال: هل تساهم وسائل الإعلام في صعود مستوى الفن أم هبوطه؟
جواب: أظنها تخدمه وتسعى لإصلاحه والمحافظة عليه، ورأيت دلائل على أنها تعتبره أصالة يجب تثمينها والمحافظة عليها، وقد أنشئت برامج مختصة به كبرنامج “آردين” وبرنامج “التيدنيت” وبرنامج “لگباح”.. وهذا ما يدل على رؤية صائبة وسعي للحفاظ على الموروث، وأرجو أن تستمر وسائل الإعلام في ذلك وتوليه العناية المناسبة.
يتواصل
(نقلا عن جريدة الشعب)