يوشك الطب النفسي الحديث أن يعكف على دراسة ظاهرة تتضح بوادرها ومعالمها شيئا فشيئا، ظاهرة هي:
ظاهرة “الأنا الافتراضية أو الشخصية الافتراضية” حيث في عالمنا الأزرق هذا بضغطة زر على أماكن من صفحة الشخص يضعها زائر ليدخل بذلك حيز “المتابعين”، ثم بضغطة أخرى يزيد عداد الإعجاب على المنشور، ثم يكتب ما سمح له الوقت بكتابته تعليقا، فتتشكل وتخرج من رحم ذلك الضغط السريع:
شخصية الفيسبوكي المغوار..!
من هذه الخطوات السريعة والبسيطة جدا التي يمكن لأي منتسب للعالم الأزرق أن يقوم بها، تولد شخصيات فيسبوكية تملأ الفضاء ضجيجا وتحليلا…
ومهما كانت طبيعة تلك الشخصية -مكانتها الثقافية والعلمية أو الاجتماعية- إلا أن لحظة ميلاد الشخصية الفيسبوكية بلا شك يمكن اعتبارها صيحة مولود جديد في داخل نفس الشخص، حيث ستبدأ ملامح خاصة على فضاء مسرح حياته الجديد لها سمات قد تتقاطع مع الشخصية القديمة والواقعية في أشياء وقد تتباين كلية وقد تتطابق كذلك.
يبدأ ذلك المولود الجديد ب”طفولة” في عالمه الافتراضي بين أفراد حاضنته الافتراضيين، تتحلى تلك “الطفولة” بسمات تابعة في الأساس إلى طبيعة النضج الفكري والعلمي لحظة الولادة وعند دخوله لهذا العالم.
فكلما كانت الشخصية الحقيقية لحظة ولادتها في العالم الأزرق خاوية على عروشها فكريا وعلميا كلما كانت المتابعة والإعجاب الافتراضي سببا في تضخم الأنا والطيش والضجيج ومطاردة الشهرة وركوب الموج والتزود من فاكهة الشخصيات البالونية المفضلة:
(خالف تعرف، ومطاردة الشائعات..)
فيكون الحصاد حسابا تصرفه الشائعات والمتابعون حيث شاؤوا، فصاحبه يطارد سر وجوده ومصدر تغذيته، فيفقد ذاته في ضوضاء رغبات المتابعين حتى كأن لسان حاله يقول:
(أنا لست أنا! أنا رزمة مما تريدون أنتم، فأنتم هنا تتابعون شتات ذواتكم)
طبعا بلا شك هناك من دخل العالم الأزرق بعد نضج فكري وعلمي وعلى قلتهم فهم يُعرفون بالتعبير عن ذواتهم وأفكارهم، فلا يصرفهم عن منشور وفكرة ما رغبة المتابعين أو عدمها، يرفعون شعار:
(الدفاع عن الفكرة مهما كان قائلها)
وبرغم ما يفعله الإعجاب على نفس الكاتب هنا، ولكنهم يكتبون عن الفكرة لذاتها، وغايتهم الكاتبة عن الأفكار، ولا يعدو الإعجاب والتعاليق سوى نتيجة لا غاية، وقد يستفيدون ويمتنون لمعارض فكرتهم لما يقدمه لهم من جزء الحقيقة الغائب عنهم..
صحيح أن أغلب هؤلاء خامل الذكر وقد يكون بعضهم في صفوف المشهورين، إلا أن من ظفر بأحدهم سيجد صيدا طريا ومدرسة مجانية ومنتجع إفادة يستريح فيها من نصب فوضى وميوعة وشعبوية هذا الفضاء..
فمما لا يخفى على أحد أن النوع الأول هو الطاغي هنا في عالمنا الأزرق، وعلى صعوبة ومرارة تحويل معتكف ومأوى نلجأ إليه أكثر أوقاتنا “افيس” إلى عالم من الشعوبية ونفايات الشائعات بدل جعله ساحة ثقافية عامرة بالفائدة نتعلم منها، إلا أننا نحن المسؤولون عن ذلك:
(فنحن من نصنع واجهاتنا هنا!)
نصيحة:
-الأولى إلى المتابِع أو العامي من أمثالي علينا أن نعي جيدا أن بوابات عقولنا “أبصارنا” حساسة جدا، فهي تطبع في مكان ما من العقل كلما تقع عليه مما تقرأ وترى، ليشكل فيما بعد جزئيات من شخصياتنا تكبر شيئا فشيئا، فالدراسات العلمية تقول إن الشخص بعد أربع سنوات سيكون نتيجة ما يدرك ويعايش في محيطه، مما يعني أنه علينا أن نجتهد ولا نظن الأمر مجرد نزهة، بل نتخير لأنفسنا ما تقتات عليه عقولنا، فهي صاحبة المقود لشخصيتنا، فلا نتابع إلا ما يزيدها نضجا ومعرفة.
-أما الثانية فهي للمتابَع أي الشخصية الفيسبوكية:
فلا تغتر يا سيدي الكريم بالمتابعة وأعلم أن كثيرا من الحسابات في وطننا أسماء مستعارة، وقد تتعدد حسابات الشخص الواحد، ثم إن خاصية المتابعة لا تعني الاطلاع على كل ما ينشر -وحتى لو اطلع عليه- لتعلم أن المتابعة عندنا ليست إعجابا بالمعنى الحقيقي بل هي ردة فعل لحظية على منشور من بين آلاف المنشورات، فهي للمنشور وليست لشخصك، فقد تخالفه في المنشور القادم فينقلب إلى الكفة الأخرى، بل إنها عندنا خاصة هي أقرب للفضول ومحبة الاطلاع على منشوراتك ولو كانت سيئة في نظر المتابِع..
وتعليقات الرجال خاصة تميل إلى المنشور الموقع باسم أنثى ولو كان في الواقع رجلا، ومهما كان محتواه وهي من أغرب الظواهر عندنا، لذا أنصحك بأن تفتش عن نفسك في نفسك وليس في الفضاء الأزرق ولا في عيون الآخرين الافتراضية.
ولتحذر من أن تولد فيك ما يطلق عليه علماء طب النفس الشخصية النرجسية، فهي تحكي أعراض إعجاب المرء بنفسه، فيقال أن أصل كلمة نرجس اسم شخص كان شديد الإعجاب بنفسه، ومن شدة الإعجاب بنفسه نظر مرة في الماء فظل ينظر فيه ويقترب منه حتى سقط فيه وغرق!
(فلا يفعلك بك بحر الافتراضية ما فعله بنرجس ماء بحر الواقع..)
فقبل أن تكونوا مادة للبحث في علم النفس راجعوا أنفسكم وقوموها وتزودوا من المعرفة لعقولكم وانشروا الخير على صفحاتكم كي تستفيدوا من عدد المتابعين، ويستفيدون هم منكم..
أصلحني الله وأصلح لنا معشر عوام المسلمين من هم في الواجهة وجنبنا تبعات الشهرة، ونجانا من الشهرة بالباطل.. وعجل بالفرج عن أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم.