معالي الوزير.. أكثرُ مقالاتكم الشهيرة عُلُوقًا بذهني مقالٌ تتحدثون فيه عن ضرورة رد الاعتبار إلى قطاع الوظيفة العمومية، طالبتم فيه بتخصيص نسبة معينة (Cota) من التعيينات في كل إدارة لهذا القطاع، وأكدتم فيه – إِنْ لم تخني الذاكرة – أنه لا سبيل إلى إصلاح الإدارة إلا بالالتفات إلى هذا القطاع “المظلوم”.
من المؤكد أن كثيرين يشاطرونكم هذا الرأي، فالموظف العمومي يكتسب من الدُّرْبَةِ ويُرَاكِمُ من الخبرة ما يؤهله للإبداع والابتكار وحل المشاكل في قطاعه، وقد رأينا أن”الْمِظَلِّيّين” parachutistes، الذين يعينون فجأة على رأس قطاعات لم يَخْبُرُوهَا من قبل، يمكثون أشهرا متململين على الكراسي الوثيرة، يُرَاوِحُون بين قَرْعِ السِّنِّ وَوَضْعِ الكَفِّ على الذَّقَن حيرةً؛ إذْ هَجَموا على أمر ليست لهم به تجربة ولا دِراية، لا يجرؤ مَرْؤُوسُوهُمْ على تكليمهم لأنهم جاءوا بإرادة عليا!
وقد أضافت مهنة التعليم – منذ عقود – إلى “حَشَفِ” الوظيفة العمومية “سُوءَ كَيْلٍ” تَمَثَّلَ من جانب في قلة جاذبيتها وانعدام الشغف بها، وهو ما أورث إحجامَ غيرِ المضطرين من أصحاب الكفاءات عنها، فضلا عن تأثيره على مردودية المدرس؛ فالإنتاج والإبداع رهينان لعشق المهنة، ومن جانب آخر تَمَثَّلَ في إحساس المدرس بانتقاص كرامته؛ نتيجة للنظرة السلبية التي أصبح المجتمع ينظر بها إلى مهنة التدريس والمدرسين، وهو أمر يدفع المدرس إلى عدم الاستمرار فيها، بل يراها غالبا محطة مؤقتة تُسْلِمُهُ إلى فرصة ما، أو وظيفة أخرى، أو هجرة إلى الخارج.
إن إصلاح الإدارة – والتعليمُ أَهَمُّ قطاعاتها – يقتضي أن تكون الترقيةُ تلقائيةً، لا دَخْلَ للمِزَاج فيها، ينالها صاحبها بكفاءته وأقدميته وأدائه، لا يمنعه منها إلا إِخْلَالٌ بَيِّنٌ بواجباته، تُثْبِتُهُ جهةٌ غيرُ مُتَّهَمَة.
ونظام الترقية التلقائية حافزٌ غيرُ مُكَلِّفٍ للدولة، يَكْسِرُ رتابة الوظيفة ومللها في نفس الموظف لأنه ينتظره على أَحَرَّ من الجمر، وغيرُ خَافٍ أن كثيرا من الوظائف العمومية فقدت جاذبيتها لِخُلُوِّهَا من التحفيز، أو لِتَحَكُّمِ المزاجية والمحسوبية والزبونية في ترقياتها.
يبدأ إصلاح الإدارة قبل كل شيء من احترام نصوصها، ومن التحيين الدائم لتلك النصوص، ومن تقدير الكفاءة والتجربة والأقدمية، ومن فتح الباب للترقي التلقائي في سُلَّمِ الوظيفة.
والمدرسون ينظرون اليومَ بِأَمَلٍ مقرونٍ بالإشفاق إلى “المقرر المتعلق بتحديد معايير ترقية المدرسين”، الذي ينتظر مصادقتكم عليه، جازمين أنه إذا وجد طريقه إلى التنفيذ الأمين سيحقق أمنية قديمة طال انتظارهم لها.
يقتضي إخلاص النصيحة لكم – معالي الوزير – أن لا أكون من الْمُثَبِّطِينَ ولا من ناكري الحقائق، وأن أُشِيدُ بما تحقق حتى الآن في هذه المأمورية في ميدان إصلاح التعليم، ومنه: تحديثُ المنظومة التربوية، والضبط الإلكتروني للمصادر البشرية، والسعي إلى سَدِّ النقص الحاصل في المدرسين عن طريق الاكتتابات المتواصلة، واختيار مقدمي خدمة التعليم على أسس موضوعية، والسعي إلى ضبط التسيب والاختفاء، والتكوينات المستمرة، وزيادة علاوات المدرسين…
أخيرا، أعلم أنكم من المسؤولين الذين يقرؤون، ولا يمنعهم طول المقالات من الوصول إلى نهاياتها، لكنني أقدر أن وقتكم قد يضيق اليومَ عن ذلك بعد تقلدكم مسؤولية الوزارة، لذا قدمت مقترحات مختصرة؛ قد تساعد فيما أنتم بصدده من إعادة تأسيس المدرسة الجمهورية، وعلى جذب الكفاءات إلى ميدان التدريس، وتحبيب المدرسين في مهنتهم، ودفعهم إلى الإبداع فيها، وتشجيعهم على الاستمرار فيها.
ومما يُكْسِبُ هذه المقترحات وجاهة وأهمية أنها ليست من بنات فكري فقط، بل ناتجة عن نقاش وتشاور مع أصحاب الكفاءات والمهتمين بإصلاح التعليم وتطويره.
1- رفع أجور المدرسين وعلاواتهم؛
2- فتح مجال الانتقال بين أسلاك التعليم من الابتدائي حتى الجامعي للحاصلين على الشهادات والكفاءات المطلوبة؛
3- تسهيل الانتقال من التعليم إلى قطاعات الوظيفة الأخرى للحاصلين على الشهادات والكفاءات المطلوبة، بحيث لا يشعر الفرد أن اختيار مهنة التعليم يعني الدخول في مسار مغلق لا فكاك منه، وهو أمر معمول به في أغلب البلدان العربية؛
4- تغيير طبيعة المدرسة العليا للتعليم لتعود لنمطها الأول – تقريبا – (وهو النمط المتبع في المغرب وتونس وفرنسا مع اختلافات قليلة)، ويتطلب ذلك:
أ- تحويل المدرسة إلى مؤسسة تعليم عال تستقبل أجاويد طلبة الباكالوريا ليحصلوا منها على الشهادات الجامعية العادية (ليصانص – ماستر – دكتوراه)، بعد الخضوع لتكوين يزاوج بين التخصصات التي يختارونها وعلوم التربية؛
ب- توسيع هذه المدرسة لتشمل كافة التخصصات، وافتتاح فروع منها في بعض المدن الداخلية؛
ج- جعل شهادات المدرسة مُؤَهِّلَة للمشاركة في مسابقات اكتتاب المدرسين دون الحاجة لتكوين إضافي؛
د- اعتماد شهادات المدرسة ليتمكن الحاصلون عليها من مزاولة أي عمل آخر إذا لم يكونوا راغبين في مزاولة التدريس وليتمكنوا كذلك من متابعة دراستهم في أي كلية أخرى إن شاؤوا؛
ه- تحسين الظروف المادية لطلبة هذه المدرسة بالرفع من منحهم والتكفل بسكنهم وإعاشتهم، بحيث تكون الدراسة فيها جاذبة ومريحة؛
و- تمكين المتفوقين في مختلف المراحل من منح دراسية في جامعات مرموقة؛
ز- مساعدة طلبة المدرسة في اغتنام أي فرصة تكوين خارجي أو المشاركة في أي مسابقة أو اختبار دولي (اختبارات الكفاءة في اللغات مثلا)، مع تحمل التكاليف عنهم، أو تحمل جزء منها على الأقل؛
ح- الرفع من مستوى مسابقات الاكتتاب للتدريس (إعادة الاعتبار لامتحاني الكفاءة المهنية للتعليم الابتدائي والثانوي، افتتاح التبريز)، بحيث يكون النجاح في هذه المسابقات عسيرا ودليلا على تميز صاحبه، مما يرفع معنويات الحاصلين عليها ويُحَسِّنُ صورة المدرسين في نظر المجتمع؛
5- تشجيع المدرسين المتميزين برصد جوائز وأوسمة لهم؛
6- الإسراع بإعادة هيكلة شعب التعليم الثانوي، وافتتاح شعب الاقتصاد والمعلوماتية؛
7- حرية التأليف التربوي من خلال اكتفاء الوزارة بإصدار المنهاج التربوي وترك الأساتذة يتنافسون في تأليف الكتب المدرسية، وبعد ذلك تعتمد الوزارة ما تراه مناسبا منها، وتنشره على حسابها، بعد تعويض أصحابه، أو فتح المجال لهم ليستفيدوا من عوائده؛
8- فتح الباب أمام المدرسين لإنشاء مؤسسات تعليم حرة، شرط خضوعها لدفتر التزامات واضح ودقيق، والتحجير على التجار الراغبين في الاستثمار في المجال بعدم الترخيص لأي مؤسسة لا يملك أكثرَ من نصف أسهمها مدرسون؛
9- تنظيم قطاع مراكز الدعم المدرسي، الذي أصبح قطاعا كبيرا موازيا للمدارس الحرة، رغم ما يعيشه من فوضى (أساتذة بلا مؤهلات، ومداخيل كبيرة غير خاضعة للضرائب…)؛
10- إتاحة كافة الوثائق الصادرة عن الوزارة (البرامج الرسمية، الرُّؤَى الاستراتيجية، المخرجات، الكتب المدرسية، نماذج مواضيع التقويم طبق الرؤية الشمولية…) على موقع الوزارة ومواقع الإدارات التابعة لها؛
11- تشجيع ودعم تنظيم النوادي والمجموعات الأكاديمية المتخصصة (نادي أساتذة الرياضيات، نادي أساتذة العربية، نادي أساتذة التربية الإسلامية…)، وهي نوادٍ يتبادل المنتسبون إليها الخبرات، ويناقشون التحديات والعراقيل التربوية التي تعترض المدرس. ومن شأن هذه النوادي أن تعيد اهتمام الأساتذة بقضايا التدريس إلى الصدارة، التي استأثر بها الشأن النقابي رغم أهميته؛
12- تشجيع البحث العلمي بين المدرسين ودعمه ماديا ومعنويا؛ برصد جوائز للبحوث المتميزة، والتكفل بنشرها، وإنشاء مجلات بحثية محكّمة متخصصة في الشأن التربوي؛
13- استحداث ترقية من نوع ما للحاصلين على شهادات عليا (دبلوم الدراسات العليا، ماستر، دكتوراه)؛
14- استغلال شهري أكتوبر ويونيو أحسن استغلال، والحرص على أن يكونا من السنة الدراسية فعليا، فقد جرت العادة أن يكون أكتوبر شهر استعداد للدخول المدرسي، وأن يكون شهر يونيو شهر الامتحانات الوطنية، وهو ما يجعل السنة الدراسية عمليا 7 أشهر فقط. ومما يساعد على ذلك تسليم الجداول الزمنية وتسجيل التلاميذ في القسم الدراسي الموالي نهاية كل سنة دراسية وليس بدايتها؛
15- استغلال وسائط الإعلام الجديدة في تقديم قصصِ نجاحٍ وتميزٍ وتحدٍّ للظروف الصعبة، سواء كان ذلك من قِبَلِ المدرس أو مسيري المؤسسات أو من قِبَلِ التلاميذ أو وكلائهم؛
16- إنتاج أفلام وثائقية عن تاريخ التعليم وواقعه في موريتانيا، تبرز الجوانب المضيئة، وتستشرف المستقبل الواعد.
وفي الختام تقبلوا – معالي الوزير – أسمى آيات التقدير والاحترام، ودعواتٍ مخلصة بأن تتكلل مهمتكم بالنجاح والتوفيق والتسديد.