الأخبارثقافة وفنون

أشهر كتب السيرة النبوية في عصرنا يترجم إلى العربية أخيرا

صدرت حديثا الترجمة العربية لكتاب “نبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلّم.. حياته وآثاره” (Le Prophète de l’Islam: Sa vie, son oeuvre) لعلامة شبه القارة الهندية محمد حميد الله الحيدرآبادي (1326 هـ ـ 1423 هـ/1908م ـ 2002م)، وجاءت في مجلدين صدرا بعد أكثر من 4 عقود من النسخة الأصلية التي ألفها بالفرنسية.

محمد حميد الله، المولود في حيدر آباد بجنوب الهند، أحد أساطين الفكر الإسلامي المعاصر، ودوحة شامخة انتقلت أسرتها القديمة من الحجاز إلى البصرة، واستقر بها المقام في جنوب الهند هربا من البطش والاستبداد.

نشأ في بيئة علمية، فبزّ أقرانه وتألق في مجالات عديدة، فهو الحاصل على دكتوراه في الفلسفة كما حصل على درجتي الدكتوراه في السيرة النبوية من جامعتين مختلفتين إحداهما من جامعة باريس والأخرى من جامعة توبنجن بألمانيا، ومن نهمه المعرفي إتقانه أكثر من 20 لغة، منها العربية والأوردية والفارسية والتركية واللاتينية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والروسية والبولونية والدانماركية والسويدية والفنلندية، وكان من آخر ما تعلم من اللغات اللغة التايلندية التي درسها بعدما تجاوز عمره الـ80.

وكان من المكثرين في التأليف والتحقيق، على أن الإكثار لم يؤثر على الإبداع والفرادة، فله عشرات المؤلفات من أشهرها ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية وقد قدم لها بمقدمة وافية وبديعة في علوم القرآن الكريم، وله كتاب “التعريف بالإسلام”، ألّفه بالفرنسية، وصدرت له طبعات عدة، ونقل إلى 23 لغة عالمية، وكتاب “ست رسائل دبلوماسية لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم” الذي صدر أيضا بالفرنسية.

وثائق العهد النبوي السياسية
وله تحقيقات كثيرة، منها ما يتصل بموضوع الكتاب الذي نتناوله وهو تحقيقه لسيرة ابن إسحاق، ومن تآليفه في مجال السيرة النبويّة وما يتصل بها كتابه البديع والنوعيّ في مجاله “مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة” وقد ألّفه بالعربيّة، وكذا كتاب “نظام التربية والتعليم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم” وكتاب “ميادين الحرب في العصر النبوي”، على أن أجلّ مؤلفاته في السيرة النبويّة هو “نبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلّم.. حياته وآثاره” (Le Prophète de l’Islam: Sa vie, son oeuvre)، وهو كتابنا الذي نحتفي باستعراضه في زاويتنا هذه.

فبعد أكثر من 40 سنة على صدوره بالفرنسية وطباعته عدة طبعات كانت آخرها سنة 1989م، رأى الكتاب طريقه إلى العربيّة قبل أسابيع معدودة بإصدار منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة في الدوحة، وترجمة الأكاديمي المغربي الدكتور عبد الواحد العَلمي الذي يقول في مقدمته لترجمة الكتاب:

“أمّا هذا الكتاب الذي بين أيدينا فهو عجيب في بابه، قلّما تجود أقلام الباحثين بمثله، فلا يضاهيه في استقصائه مصادر السّيرة والرجوع إلى ما كتب عنها قديما وحديثا، والدخول في حوار نقدي مع الباحثين فيها القدماء والمعاصرين إلّا كتب قليلة، والتآليف في السيرة عند علّامتنا لم تأت من فراغ ولم يكن تأليفا من أجل التأليف، بل جاء تتويجا لمعاشرة علميّة لمصادرها، ومصاحبة روحيّة لما كتب فيها، وإنجازات تحقيقيّة معتبرة لبعض وثائقها، فجاء الكتاب ثمرة خبرة تكونت من كلّ ذلك”.

إنّ ترجمة هذا الكتاب تمثّل بعثا جديدا لروح حميد الله العلميّة واستحضارا لحياته الفكرية وهو الذي فارق الحياة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2002 عن 94 عاما.

وقبل الولوج في العناوين التفصيليّة للكتاب، فإن أهم ما أضافه الكتاب على استعراضه تفاصيل أحداث السيرة النبويّة بطريقة تجمع بين تحقيق الأقدمين ولغة المعاصرين هو رصد ما انبثق من تعاليم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله من مؤسسات إداريّة وسياسية واقتصاديّة، سواء كان ذلك خلال حياته أم بعد وفاته صلى الله عليه وسلّم، فقد توقّف المؤلف مليا عند التّعاليم الأخلاقية والاجتماعية وما أثمرته هذه التّعاليم من مؤسسات وقفية وتعاونية في المجتمع المسلم.

كما فصّل المؤلف القول في التوجيهات النبوية المتعلقة بطلب العلم، والتي أثمرت ابتداء استقرار العلم في المجتمع المسلم بوصفه قيمة راسخة وصولا إلى ازدهار بعض الحقول العلميّة والمعرفيّة، وقد رصد المؤلف بعض هذه الحقول كتطور علم الطب والفلك والصناعة العسكرية والأرصاد الجوية والملاحة البحرية والبحوث والتقنيات الزراعيّة بوصفها ثمرة من ثمرات السيرة النبوية.

حوار نقدي
وتميّز الكتاب بالحوار النقدي مع الباحثين الأقدمين والمعاصرين في السيرة النبويّة، ومن ذلك الاستفاضة في ردّ أقوال المستشرقين الذين خبر المؤلف أفكارهم ولغاتهم وبواعثهم كما لم يخبرها غيره.

والكتاب ليس سرديا لأحداث السيرة النبويّة، بل تضمن تحليلات واستنباطات وتأويلات في كثير من مواضعه، ومما تجدر ملاحظته أن هذه الاستنباطات والتأويلات هي ابنة السياق الزمني والظرف السياسي والاجتماعي الذي ألف فيها حميد الله كتابه، وقد جرت مياه كثيرة في أودية الزمن والسياسة والمجتمع من ذلك الوقت إلى يومنا هذا فلا بدّ عند التعامل مع بعض هذه التأويلات والاستنباطات استحضار هذه الملحوظة.

يبدأ محمد حميد الله كتابه بمقدمة يجيب فيها عن سؤال “لماذا دراسة حياة نبي الإسلام؟” ثمّ ينتقل في المقدمة نفسها إلى تفصيل القول في “المواد والمصادر الأولى” مستعرضا ومقيّما أهم المصادر التي يتم الاعتماد عليها في السيرة النبويّة، ليبدأ بعد ذلك خوض غمار سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- مبتدئا بالحديث عن “الوسط والظروف” مستعرضا أوضاع البلاد بين يدي ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، الصين، والهند وتركستان ومنغوليا والإمبراطورية البيزنطية وفارس والحبشة، ثم ينتقل بعد ذلك للحديث عن “اختيار مركز” مستعرضا الأسباب لاختيار مركز القيادة لأي رسالة إصلاحية، ثم يفصل القول في “اختيار مكة مركزا” ويشرع بعد ذلك في الحديث عن “اختيار محمد -صلى الله عليه وسلم- للرسالة الإلهيّة الأسمى” مبحرا في الحديث عن “أسلاف النبيّ صلى الله عليه وسلّم”.

ثمّ يستعرض في عناوين متتالية البداية مع ولادة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ونشأته وزواجه ومجريات ما بين ولادته وبعثته -صلى الله عليه وسلم- ليتوقف عند “يقظة الضمير الديني” مبينا تفاصيل متعلقة بحوادث أسهمت في هذه اليقظة قبيل بعث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة.

وينتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن “الرسالة” مستعرضا تفاصيل بدئها ثم تبليغها وما ترتب عليها من مجابهة، ليفصل القول بعد ذلك بالهجرة إلى الحبشة وما تبعها من الحصار الذي يعبر عنه بوصف “الإقصاء الاجتماعي” ثم طرح عنوان “البحث عن منفى” وبعد ذلك بسط القول التفصيلي والتحليلي في “المعراج والمعجزات” وما تبع ذلك من انفراجات في مسار الدعوة متحدثا عن “انتشار الإسلام في المدينة”، وقبل الحديث عن “الهجرة إلى المدينة” يفصل القول في “نشاط النساء في الإسلام قبل الهجرة” مستعرضا أهمّ أعلام النساء في الفترة المكيّة ودورهن في مواجهة التحديات التي صاحبت البعثة النبوية والدعوة إلى الدين الجديد.

وبعد الهجرة يشرع المؤلف في الحديث عن “تنظيم الجماعة” و”تكوين أول دولة إسلاميّة” ليبدأ بعد ذلك فصلا عريضا تحليليا عن “الحياة السّياسية الدينيّة” مستعرضا “العلاقات مع قريش” وما تخلّلها من مواجهات عسكريّة وغزوات نبويّة، ثم ينتقل إلى استعراض “العلاقات مع الحبشة” وما فيها من تفصيل العلاقات في مكة وما جرى من المراسلات النبويّة عقب الهجرة وطبيعة العلاقات الممتدة مع الحبشة، ثم يأتي الحديث عن “العلاقات مع مصر” ويتبعه الحديث عن “العلاقات مع الإمبراطوريّة الرومانيّة” وكل ذلك بتفصيل إخباري واستفاضة تحليلية وافية ليكون بعدها الحديث عن “العلاقات مع الفرس” وتفصيل خاص عن “العلاقات مع المستعمرات الفارسيّة” لا سيما تلك التي تقوم في الجزيرة العربيّة.

وفي هذا السياق يستعرض المؤلف “قبائل شبه الجزيرة العربيّة” محللا الأحداث المتعلقة بتعامل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مع كل قبيلة منها، ثمّ ينتقل المؤلف للحديث عن “العلاقات مع اليهود” مفصلا القول في مسيرة العلاقات مع اليهود وتطوراتها منذ بداية البعثة، ولم يقتصر القول على اليهود في المدينة بل استعرض اليهود في عموم الجزيرة العربيّة والعلاقات معهم، وبعدها جاء الحديث التفصيليّ عن “العلاقات مع النصارى” مستعرضا قبائل النصارى والعلاقة معهم، وباسطا الحديث في “المسيح والنصرانيّة في القرآن الكريم”.

الآثار النبوية
وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى فصل جديد وهو الفصل الختامي في الكتاب ويحمل عنوان “الآثار”، يسترسل فيه بالحديث عن آثار السيرة النبويّة مبتدئا بالحديث عن “المحافظة على سنة النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وتعاليمه” ثمّ يبسط القول التفصيلي والتحليلي في “التعاليم الدينيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم” ثم ينتقل للحديث عن “التعليم والتربية” ومن بعدها يأتي القول المفصل في “العلوم وازدهارها”.

ومن الآثار المهمة التي يسترسل المؤلف في الحديث عنها استعراض وتحليل “التصوّر الأولي للدولة عند النبيّ صلى الله عليه وسلّم”، لينتقل بعد ذلك للحديث عن “تصور الدولة في العصر الإسلامي” مستعرضا التصور القرآني للدولة والمسار التاريخي لها في القرآن الكريم، وما تنطوي عليه الدولة من مسائل السلطات والسيادة وغير ذلك.

ثم يتناول المؤلف ويشرح آثار “الوظيفة العموميّة والتوظيف” ولا ينسى المؤلف أن يجعل تفصيلا واسعا للحديث عن “النظام الاقتصادي” ليستعرض فيه أسواق الجزيرة العربيّة، ثم يبيّن إسهام الإسلام في تطوير الاقتصاد، ومداخيل الدولة ونفقاتها، وما يتعلق بإدارة النفقات والزكاة وغيرها، ثمّ يشرع في الحديث عن “النظام العسكري” موضحا القول في العمل العسكري بوصفه نظاما رسخه النبي -صلى الله عليه وسلم- في عموم أعماله العسكرية وغزواته، ويشمل ذلك حديثا عن “الراية واللواء”.

ويتحدث بعد ذلك عن “النظام الدبلوماسي والقنصلي” مفصلا القول في الدبلوماسيّة قبل الإسلام، ثم العصر الإسلامي وسفارات المسلمين، والعمل القنصلي والأرشيف، ثم ينتقل المؤلف لتفصيل القول في “المبادئ الأساسيّة في سياسة النبيّ صلى الله عليه وسلّم” مستعرضا 15 مبدأ للسياسة النبويّة، ومعلقا على كلّ مبدأ من هذا المبادئ استشهادا وتبيينا.

وينتقل المؤلف للحديث عن “الحياة الاجتماعيّة في ذلك العصر” متحدثا عن الولادات والاحتفال بها، والمساكن والحجاب، ويفصّل القول في “الحياة الشخصيّة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، رئيس الدولة”.

ويصل المؤلف إلى “الخاتمة” متحدثا عن وداع النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- للحياة الدنيا، والمرض والموت، ثم يختم الكتاب بالحديث عن “الدفن ومشكلة الخلافة”.

كتاب “نبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلم.. سيرته وآثاره” الذي يقع في 830 صفحة، يعد من الكتب النوعيّة في تناول السيرة النبويّة من حيث الشكل والمضمون، ولئن كان الكتاب قد تأخر عقودا حتى ظهر بالعربيّة، فإن ظهوره اليوم يمثل رافدا بالغ الأهميّة لمكتبة السيرة النبويّة للباحثين المتخصصين وعامة القراء على حد سواء.

المصدر: الجزيرة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى