مع شاي الصباح

مع شاي الصباح (غياب الجامعة عن السجال العام)

أحمد سالم ولد باب

كانت أعوامُ نشأةِ مؤسّساتِ التعليم العالي في بلادنا (جامعة انواكشوط، المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، المدرسة العليا للأساتذة والمفتشين) أعوامَ ازدهارٍ للبحث العملي في ميدان الآداب والعلوم الإنسانية خاصّة..

فقد جَمَعَتْ رسائلُ التخرّج في تلك الفترة تاريخَ البلد حبّةً حبّة، وحَقَّقَتْ تراثَه المكتوبَ والمرويَّ نصًّا نصًّا.. وفي تلك الحقبة أُدْرِجَ الأدبُ الموريتاني لأول مرة في المناهج والمقررات الجامعية، واستطاع المهتمون أن يقرؤوا تاريخ البلد منذ ما قبل التاريخ إلى اليوم في تَسَلْسُلٍ ليس فيه فَرَاغ، وترابطٍ يُعَضِّدُهُ المنطقُ..

وليس من المبالغة القولُ بأن رسائلَ الإجازة، التي نُوقشت في تلك الفترة، تُعَادِلُ في جودتها رسائلَ الماجستير والدكتوراه التي تُناقَش في أيامنا هذه..

ألا يعني ذلك أن السُّنَنَ الكونيةَ تُخْرَقُ عندنا؛ إذ أن البداياتِ تكون عادة ضعيفةً، ثم لا تزال تنمو ويشتدّ عودُها حتى تنضج وتستويَ على سُوقِهَا، أما عندنا فتبدأ قويةً ثم لا تزال تَذْوِي حتى يَجِفَّ عُودُها؟!

ومما يَحُزُّ في النفس أن مؤسساتِ التعليم العالي جَمَعَتْ اليوم بين حَشَفٍ وسُوءِ كَيْلَة، حين انحدر مستوى البحث فيها وغابت عن الخوض في الشأن العام!

تَخَلَّفَت الجامعة – حيث ينبغي حُضُورها – عن السِّجَال في المسألة اللغوية، ولم يكن هذا السِّجالُ أحوجَ إلى شيء حاجتَه إلى هدوءِ العالم، وعُمْق الباحث، وسَعَةِ صَدْر الأكاديمي!

والواقع أن أكادِيِميِّينَا استقالوا منذ سنوات من نقاش الشأن العام، وإذا حدث أن شارك فيه أحدهم فَسَيَلْتَبِسُ عليك خطابُه حتما مع خطاب الغوغاء والدهماء.

أليس من الْمُحَيِّرِ أن يكون عَطَاءُ الجامعة في سِنِي تأسِيسِها أَوْفَرَ منه في أيامنا، حيث اتَّسَعَ فضاؤها، وتعدَّدت كلياتها، وتمددت شُعَبُها؟

قَصَّرَت البحوثُ، التي أُنْجِزَتْ أيامَ تأسيس الجامعة، في إلقاء الضوء على نهضةٍ عظيمة في العلوم الإسلامية والعربية؛ شهدتها ضِفَّتَا نهر السنغال، ثم وَأَدَهَا الاستعمار الفرنسي بقسوة، وأحرق كتبها، وقتل علماءَها، وشَرَّدَ طلابها، واستدراكُ هذا التّقصير سَيُسْهِمُ – من غير شك – في وَصْلِ ما انقطع من ماضينا بحاضرنا، وسَيُحْيِي الاعتزاز بذلك التاريخ العلمي الزاهر..

يكتنف الجدلَ القائمَ، حول المسألة اللغوية اليومَ، سوءُ فَهْمٍ خطير، ويختزل مُشْعِلُو الحرائق من الجانبين المسألةَ في أن “العروبيين يفرضون لغتَهم تكريسا لسيطرتهم، وأن الانفصاليين يرفضون اللغةَ الرسمية للبلاد تمهيدا لانفصالهم”!

إن المعالجةَ الأكاديمية للمشاكل بطيئةُ المفعول، لكنها مضمونةُ النتائج، عميقةُ التأثير!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى