مع شاي الصباح

مع شاي الصباح (شاهد على أَعْصُرِ الرؤساء!) (1)

أحمد سالم ولد باب

هذه ذكريات تشهد على أَعْصُرِ أهم الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم البلاد، حدثني بها أكاديمي موريتاني يعيش أغلب وقته اليومَ في أوروبا حيث درس وعمل، سَأُخَلِّلُ بها هذه الصباحيات طالما استمر في حكايتها، وسَأَتَقَمَّصُ فيها دورَ الراوي نيابةً عنه..

لم يَعْلَقْ بذاكرتي من حكم الرئيس المختار ولد داداه، وأنا المولود في الأعوام الأولى من السبعينيات، إلا تلك الصورةُ الوردية المبالِغَةُ في الإطراء، التي يرسمها كبار السن والموظفون المتقاعدون لشخصيته وفترة حكمه.

لكنني حين أفكر في الأمور التي طَبَعَتْ شخصيةَ جيلي، خلال السنوات التي أدركنا من حكمه، أجد أن أهمَّها أمران: جودة التعليم، وخُفُوتُ الروح القَبَلية!

أذكر أن مستوياتِنا الدراسية كانت متقاربة، وقَلَّ أن يَلِجَ أحدُنا المستوى الإعدادي إلا وقد أصبح قادرا على الأداء الجيد باللغتين: العربية والفرنسية تعبيرا وتحريرا.

وقد لقيت أحد أساتذتي القدامى في خريف 1999 فشكا إِلَيَّ ما يلقى من ضعف مستويات التلاميذ، قائلا إنه يعاني الأَمَرَّيْنِ مما يكتبه تلامذة اليوم: ضُعْفَ المضمون، ورداءةَ التحرير.

ثم أردف – وهو يغالب حَنِينَه -: في أيامكم كنت أُقَوِّمُ صحةَ المعلومات فقط، أما التحرير فكان سليما في الأغلب!

لم يَخْفَ على أساتذتنا في الجامعات الأجنبية التي التحقنا بها بعد ذلك تَمَيُّزُ الطلبة الموريتانيين، وسمعتُ أكثر من مرة أن بعضهم عَبَّرَ عن إعجابه بجودة النظام التعليمي الموريتاني ونجاعته.

ورغم أن أكثر أساتذتنا في المرحلتين الإعدادية والثانوية كانوا سوريين وعراقيين وفرنسيين، ابْتُعِثُوا في إطار اتفاقيات التعاون التي أبرمتها البلاد مع أصدقائها، إلا أن الأساتذة الموريتانيين كانوا الأفضلَ: لغةً، وموسوعيةً، وقدرةً على إيصال المادة العلمية.

كان الغالب في الأساتذة الأجانب اقتصارُ معارفهم على المادة التي يُدَرِّسُونَهَا، بينما تميز أكثر الأساتذة الموريتانيين بِسَعَةِ المعارف وتَنَوُّعِهَا، وهو ما جعل دروسهم في غاية الإمتاع، فهم يُحْسِنُونَ مَزْجَ العلومِ بعضِها ببعض، ويعرفون مواطنَ الوصل والفصل بينها.

وقد اتَّصَفَ الأساتذة الموريتانيون كذلك – في أغلب الأحيان – بسعة الصدر، واحتمال شَغَبِ التلاميذ، خلافا للأجانب الذين كانوا يغضبون ويخرجون عن أطوارهم لأتفه الأسباب.

لم نكن نسأل بعضنا عن الانتماء القبلي، بل كنا نخجل من ذلك ونعتبره “رجعية”، وهو سلوكٌ رافقنا إلى اليوم!

أشعر بالدهشة والإنكار اليومَ عندما تعود ابنتي من المدرسة أحيانا، سائلةً عن القبائل والطبقات الاجتماعية، تُلِحُّ في أَنْ أُمْلِي عليها بعضَ ما أعرفه مما قيل من شعر فصيح أو شعبي في مآثر أجدادها وعشيرتها، وتشتد دهشتي وإنكاري حين تحدثني أن بعض أساتذتها يخوض مع التلاميذ في تاريخ القبائل ونزاعاتها، ويسأل بعضهم عن قبيلته، ويفاضل بين التلاميذ على ذلك الأساس!

أما ما يُحزنني حقا فهو أنها تدرس في مدرسة لن تتعرف فيها على كل أعراق وطنها، بعد أن أصبح لكل عرق مدارسه الخاصة، رغم أن أباها اليومَ مَدِينٌ لمدرسة السبعينيات بإتقان إحدى اللغات الوطنية والحديث بها كما يتحدث بها أهلها!

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى