مقالات

في مهنة المتاعب (8)

محمدُّ سالم ابن جدُّ

من الليالي المميزة في تاريخ الإعلام الموريتاني ليلة مركز الإرسال (سانتر أمتير) التي مضت في حصار ما ظنه الأمن مسلحين يتحصنون في المبنى المستهدف.
في التاسع من إبريل 2008 عدت إلى المنزل مساء فلم أنشب أن وصلني نبأ عن إطلاق نار بتفرغ زينه جراء تمرد بين صفوف المتقاعدين من جنود “مهضومين”! كان الخبر منقولا عن جماعة “المرترتين” التي أدمنت “ظامه” ومن بينها جنود سابقون بالطبع، ولم يكن مقنعا ولا متماسكا؛ بل كان بادي العوار، لكنني افترضت انبناءه على أصل ما، فهاتفت مديري مستعلما فإذا به يقول: “لقد تعجلت في الانصراف” ولأن انصرافي كان في وقته المعهود وبعد إنجاز عملي 100% علمت أن طارئا استجد يقتضي العودة فقلت له: ها أنا عائد بإذن الله.
في مقر الجريدة كنت الوحيد الماكث من هيئة التحرير؛ فقد كان زملائي يجوبون الميدان ويوافونني بما استجد، وكانت مهمتي تلقي المعلومات منهم وتحريرها ودمجها عند الاقتضاء وإحالتها إلى الطابع ثم مراجعتها وتدقيقها لغويا.
جرى معظم الليل على هذا النحو باستثناء ساعة أمضيتها في الميدان لأن زميلا لنا تفرغ لمساعدة مراسلة إحدى كبريات الفضائيات العربية ومن ثم احتيج إلي فاتجهت فورا إلى عين المكان الذي كان حيص بيص.. كان السائق حذرا فنكب عن الجادة واختار بنيات الطرق، وعند وصولي كانت المعلومات مشوشة ويصعب التأكد من معظمها، وكانت مكالمات بعض العيال والقرائب تترى مسترحمة وملحة بضرورة الابتعاد عن “الخطر” ولم يكن بإمكاني إغلاق هاتفي للتخلص منهم، لأن جانبا من عملي يدور عبره!
أما المراسلة المذكورة فكانت مودعة في منزل أستاذ جامعي على مسافة من مكان الخطر المحتمل، وزميلنا يمدها بالمعلومات تباعا، وحين ربطت قناتها الاتصال بها قالت: “أنا الآن في قلب الحدث”!
العقيد (أو الجنرال، لا أذكر) محمد ولد عبد العزيز قائد كتيبة الأمن الرئاسي (آنذاك) مصر على تثبيت مصباح كاشف في عمود إنارة مجاور للمكان المستهدف، ولتحقيق ذلك جاء مدير شركة الكهرباء فيما أظن (وهو ضابط سابق أيضا) واستقدم العدة المناسبة لذلك. وبلهجة يأس واستسلام قال العامل المكلف بالمهمة وهو ينتعل أداتي الصعود: نحن لا نستطيع إلا الخضوع للأوامر، لكن ما حاجتكم إلى الإنارة؟ من صعد هذا العمود كان هدفا سهلا لهؤلاء، وستشتعل النار، ولن تستفيدوا غير زيادة الظلام! ثم ما حاجتكم إلى إضاءة موقعكم؟ أليس الأفضل أن تبقوا في الظلام فتبصروهم ولا يبصروكم؟
حين سمع الرجلان كلام العامل قال قائد الأمن الرئاسي: حسنا.. دعه الآن. وعدل عن رأيه.
بعد ما هدأت الأمور عدت إلى المقر وبات زميلان لي هناك وبات الحصار محكما، وفي الصباح شن هجوم مدمر على المنزل الذي لم يكن به أنيس؛ فالقوم قد رحلوا مساء أمس!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى