مقالات

في مهنة المتاعب (29)

محمدُّ سالم ابن جدُّ

في خريف 2006 كتبتُ في جريدة السفير – حيث كنت أعمل- تقريرا عن مجموعة كانت تعرف بالسجناء السلفيين؛ من بقي في السجن منهم ومن غادره سرا أو علانية، وفوجئت مساء صدور التقرير بالخديم ابن السمان الذي كان قد “فر” من السجن المدني بشكل مثير للجدل، يتصل بي عارضا إجراء مقابلة معي بالهاتف.
رتبت الأمر من الناحية الشخصية والفنية والقانونية، وحددت معه العاشرة من صباح اليوم الموالي، وكان عطلة، ومع ذلك وضعت في الحساب أمرين:
1. من المحتمل أن تكون المكالمة مراقبة، ومن ثم آثرت إجراء المقابلة في مكاتب الجريدة فلا يستوي استنكار اقتحام مقر جريدة واقتحام منزل عادي في حي عادي.
2. من السهل – على من شاء- تدبيج مقابلة وادعاء إجرائها مع شخص مختف والمباهاة بذلك؛ فمن سيكذبه!
لذين حضرت إلى مقر الجريدة وتسلحت بجهاز تسجيل عالي الجودة على غير عادتي؛ حيث لا أسجل في غير ذاكرتي، وما زلت محتفظا بالتسجيل بعد حوالي عقدين من الزمن!
مرت المقابلة بسلام وحررتها ومَحْوَرْتُها ونشر جزؤها الأول صباح الاثنين (وكان بداية رمضان) وجئت متأخرا فوجدت أمامي صديقا لي من إدارة الأمن نسيني منذ انقلاب الثالث من أغسطس! سلم علي باهتمام متجدد ثم طلب مني مرافقته إلى مكان قريب، فسألته أهو إدارة الأمن فاستخف بسؤالي وفنده وعاود الطلب فقلت له بحزم: إذا كان المطلوب الذهاب إلى إدارة الأمن أو أحد فروعها فهلم، وإلا فلا وقت لدي!
ضحك متظاهرا بالسخرية وقال: فلتكن إدارة الأمن ما دامت هذه رغبتك! هلم إذن.
ذهبنا إلى مكتب لم أكن أعلمه لإدارة الأمن – وما أكثر ما قد يفوتني من أمرها- فقدمني إلى شاب جالس باسترخاء على مكتب وثير ثم التفت إلي قائلا: هذا ضابط المداومة. وجدت في قوله: “ضابط المداومة” غرابة، فنحن في ضحوة يوم عمل ولم أدر أهو سبق لسان أم كذلك نظام القوم.
نظر الشاب إلي من عَلٍ نظرة البازي إلى فريسته وقال:
أين الخديم؟
قلت: الله أعلم.
قال: ألا تعلم أنه مطلوب لدينا؟
قلت: فلتبحثوا عنه.
قال: أنت أجريت مقابلة معه.
قلت: أنا لا أعمل لديكم، ولو لم يكن مطمئنا من عدم وجود علاقة لي بكم لما كانت المقابلة.
ثم أضفت: ولكن لماذا أنا؟! في الطريق إلى مقر عملي مر مبعوثكم هذا (وأشرت إلى من أحضرني) ذهابا وإيابا بعمارة الخيمة، وفيها مكاتب قناة الجزيرة التي تحاور الخديم كيف شاءت وكلما شاءت كما تحاور غيره، فلم تسول له نفسه استدعاء أحد من مراسليها، ولم يفكر الأمن الموريتاني كله في ذلك، لأن لهم حماية خارجية، فلماذا يكون المواطن الموريتاني المحتمي بالقانون الموريتاني هو الجدار القصير لديكم؟
لقد درست الأمر قبل الإقدام عليه ووكلت محاميا مبرزا للدفاع عني عند الاقتضاء، وأنا جاهز لما تريدون.
خلع الشاب قناع الصرامة فغيّر مجرى الحديث وسألني مداعبا: هل تسحرت البارحة؟ وبعد مزاح على هذا النحو أمر صاحبي بإيصالي وخرج معنا للتوديع، وعند المدخل أمر البواب بما يقتضي الذهاب إلى الداخل فانتهز الفرصة للقول:
ما دار بيننا ليس للنشر.
قلت: إذا كانت هذه حاجتك فلن ينشر.
قال: هي حاجة لكلينا.
أوضحت له أن لا حاجة لي ولا مصلحة في حجب ما جرى؛ بل قد يكون العكس هو الصحيح، فاعترف بأن الحاجة له فطمأنته ولبيت مطلبه.
بعد عودتي إلى مقر العمل أخبرت جماعتي بالأمر مجملا فألحوا من أجل نشره وأصررت على عدم النشر، وضمانا لذلك لم أحدثهم بالتفاصيل؛ حيث لم أر من المروءة الإخلال بالتزام قطعته على نفسي طوعا لمن لم ينتزع مني شيئا كرها.
حفظت رقم هاتف الخديم في البداية بالحرفين الأولين (خ س) ثم رأيت هذا مفهوما لمن يعلم علاقة لي به، وضمانا للسرية حفظته باسم “خدي بنت سيدي” تمويها على من قد يطلع عليه.
بعد شهور رأيت هذا الاسم الذي لا أعرف صاحبته فاستغربته وكدت أحذفه أكثر من مرة فكنت أعدل عن ذلك قائلا: ما حفظته إلا لمأرب فيه فالصواب أن لا أحذفه. واستمر الحال هكذا فترة إلى أن رن هاتفي ذات مساء فنظرت إلى شاشته فإذا المتصل “خدي بنت سيدي” التي لم تكن – عندما فتحت الخط- سوى الخديم ابن السمان! وهكذا أردت التمويه على غيري فموهت على نفسي أيضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى