مقالات

في مهنة المتاعب (19)

محمدُّ سالم ابن جدُّ

في صدر العقد الأخير من القرن الميلادي الماضي احتضنت بلادنا نشاطا ثقافيا لم أعد أذكر كنهه باستثناء ما يتعلق بي منه وهو جزئي طبعا.
دعاني شخص من خيرة أطر هذه البلاد فخلا بي مشعرا – على نحو يستبطن الإشعار بالمنة- بأن القطاع الوصي أسند إليه ترجمة الخطابات الملقاة في النشاط المذكور، وأنه (بعد إطراء) سيسند إلي ترجمة خطاب المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) فيديريكو مايور (1987- 1999) حرصا على جودة الأداء وحبا في شخصي الضعيف. وتخفيفا للعبء فقد تسلم الخطاب وسيعرِّبه بالتعاون معي، ثم يمدني بنسخته العربية في الوقت المناسب، وما علي إلا مواكبة المتحدث، وفي النهاية استلام مكافأة قال إنها “مجزئة”. وإن نبهني على أن من الخطأ الصمت أثناء الترجمة اتكالا على إتمام الفقرة ما لم يصمت المتحدث، فمن الضروري إعادة جملة أو فكرة وإلا حسب المتلقون في الترجمة قصورا.
قبلت شاكرا هذه الغنيمة الباردة؛ فالترجمة التحريرية لم تدع لي سوى قراءة السطور، بلغة لا أجد حرجا في تلاوتها.
انعقد الاجتماع فإذا بصاحبي يهيمن على كل جوانبه ذات المردود المادي، من طبع الملصقات والمنشورات إلى الترجمة إلى خدمة الصوت.. إلى غير ذلك.
وكما كان كريما معي إلى حد ما كان كرمه مع أصدقاء له أكبر؛ فتعاقد مع “مؤسسة” صديقنا المصور المتجول في مجال التصوير، وتعاقد مع “مؤسسة” زوجه (زوج المصور) على توفير المشروبات والمأكولات الخفيفة.
وبالمناسبة فمؤسسة المصور لا تعدو كاميرا عتيقة يحملها في يده أينما توجه، كما أن مؤسسة حرمه المصون لا تعدو حقيبة نسائية في عاتقها.. وهكذا حال الباقين.
بعد الخطاب الرسمي والكلمة الترحيبية جاء خطاب مايور الذي اختير له الوقت المناسب وألقي نيابة عنه، فطفقت أساير المتحدث وأسعد برؤية الارتياح على وجوه ذوي السماعات من جمهور القاعة (ومنهم شخصيات مهمة) وكانت قمرة الترجمة مريحة أيضا، إلى أن خرج الرجل عن النص الذي بيدي فبدأ يتحدث فيما حسبته سلامة البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية بعدما كان حديثه عن المخطوطات والمدن الأثرية!
لذت بالصمت وبدأت أنظر حولي بحثا عمن يوصل الترجمة للناس، ولم يدم هذا سوى جزء من الدقيقة، فقد جاء الرجل يعدو كالغزال وواصل قبل هدوء أنفاسه فقام بالمطلوب، بينما جلست أتصبب عرقا وأقطر خجلا.
لم يشوش هذا الخلل الفني العابر مجرى النشاط الثقافي فسار كما أريد له، وفي الختام وقعت لصاحبي على استلام مبلغ مناسب من الدولار، سلمني نسبة منه بالأوقية وبقيت صديقه، فالاختلاس لا يفسد للود قضية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى