مقالات

في مهنة المتاعب (11)

محمدُّ سالم ابن جدُّ

تكاد تنحصر تجربتي الإعلامية في الإذاعة والصحافة المكتوبة، فلم أظهر على الشاشة الفضية إلا ضيفا، باستثناء مرة يتيمة لها قصتها.
كان الأستاذ لسان الدين يعد ويقدم برنامجا ثقافيا مُهِمًّا تغير اسمه أكثر من مرة (نسيت اسمه يومئذ) في التلفزيون، وفي صيف عام 1992 أدْرِج في مواضيع إحدى حلقاته تمثال مُقام لأبي فراس الحمداني في حلب، فعهد إلي بإعداد حوار معه دون تحديد المضمون.
لم أجد في المهمة صعوبة من حيث المبدأ، وإنما وجدت صعوبتين أخريين:
الأولى في تمرير مرامي من سم الخياط المفتوح للخطاب السياسي في دولة بادئة في التحول من القبضة الحديدية إلى “ديمقراطية” لما تتجاوز الرئيس إلى الشعب، ولا ترى في نظامها وأعوانه كفاية؛ بل تريد من كل فرد أن يعبر عن وجهة النظر الرسمية.
الثانية في تكييف نفسي مع ما رأيته تصنعا زائدا يتطلبه التلفزيون ولا ينسجم مع عفويتي ومقتي للتطبع وأهله.
قبل أن أنام ليلتي كان الحوار جاهزا مفهوما سطحيا، وينضح لذوي الألباب بمرامي:
– تحجر أبو فراس (وما يرمز إليه) لأنه لا يمكن أن يعيش بشرا سويا في الشرق الأوسط أواخر القرن الميلادي العشرين.
– مأسور بأقصى سوريا حرصا على راحة العدو الغاصب.
– في حديقة مزهرة لإلهائه عما يدور حوله.
– تمثال المتنبي أقيم أيضا في دار الكتب ببغداد؛ كأنما أريد منه أن يكون مجرد قارئ لما يقدم إليه.
ومما جاء في الحوار الافتراضي:
“لِمَ ترفع رأسك هكذا؟ أهي النرجسية؟ أم أنت تراقب العدو خلف الثغور؟ لا.. هم أقرب إليك مما تتصور!! لقد جاؤوا من وراء ظهرك!
لا تتحرك حتى لا تثير ريبتهم فيقتلوني بك!”
كنت أعني بهذا الكلام تحول جهة المواجهة المباشرة من بيزنطة إلى إسرائيل، ولم تكن لحلب (حيث التمثال) خصوصية يومئذ، وأراه اليوم وكأنما كتب عن حلب في أيامنا هذه!
في الموعد المحدد جئت التلفزيون أحمل ما طلب مني على الوجه الذي يرضيني، ولم يقف أي اعتراض في سبيل بثه فدعيت لتسجيله بعد قليل وعُهِد إلى مخرج شاب بالجانب الفني في الموضوع، لأبدو كأني مع التمثال في حديقته، أدور حوله وأخاطبه كفاحا.
عندما اطمأن الشاب على أن كل شيء في الاستديو على ما يرام نبهني على شاشة تقابلني تتيح لي مراقبة مظهري؛ طالبا أن أبدأ بمجرد إيماض المصباح الأحمر في أعلى الكاميرا المنتصبة اتجاهي، وصعد إلى حيث ينبغي أن يكون.
أومض الضوء الأحمر وأضاءت الشاشة في الوقت نفسه فقدمتني إلى نفسي، وبدأت الحديث. وبعد قليل انتبهت إلى أن ميلا برأسي فأردت تعديله فزدته! لأني تصرفت كمن ينظر في المرآة لا في شاشة تعكس الصورة فتجعل اليمين يسارا واليسار يمينا كالمال السياسي في بلادي. ثم سارت الأمور على ما يرام إلى النهاية، والله أعلم هل التسجيل محفوظ هناك أم ضاع.
يومها رأيت قرائن كثيرة على أني لم أخلق للتلفزيون ولم يخلق لي، فعدلت عنه إلى الآن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى