حوارات

الشيخ حمدا ولد التاه: الإلحاد كان أكثر في الزوايا منه في الفئات الأخرى !

أجرى الحوار وقدَّم له: أحمد سالم ولد باب

قبل ثمانية قرون من الآن قرر عالمان مسلمان جليلان الدخول في عزلة فكرية اختيارية، من أجل التفكير في سبيل تُخرج الأمة المثخنة بالجراح من واقعها البائس.. وكانت نتيجة هذه العزلة أن خرجا على الناس بكتابين جليلين: هما الموافقات للشاطبي؛ في أسرار التشريع ومقاصده، والمقدمة المشهورة لابن خلدون؛ في أسباب قيام الحضارات وانهيارها..

لكن الواقع المحزن الذي كانت ترزح فيه الأمة آنذاك؛ شغلها عن الاستفادة من هذين الكتابين.. من أجل استئناف مسيرتها وشهودها الحضاريين.. وبقي الكتابان – اللذان انبهر بهما العقل الأوروبي قبل العقل المسلم – بقيا حبيسي الأدراج، حتى أعاد رواد النهضة العربية اكتشافهما في مطلع القرن العشرين.

أتذكر هذا كلما استمعتُ للشيخ حمدا (وهو من القلائل الذين يفهمون عن الشاطبي).. وأتساءل كثيرا: هل شغلناه نحن عن عمل من قبيل العمل الذي أنجزه الشاطبي وابن خلدون.. حين “ذهبنا به إلى غير فنه”، على حد تعبير الشيخ سيديا؟

صدق من قال إننا أمة تضييع الفرص !..

إن مكان الشيخ حمدا هو قاعات الدرس وأروقة الجامعات ومعاهد البحث.. وحين ابتعد أمثاله عن قيادة الفكر والرأي؛ عَجَّتْ الساحة بأنصاف المتعلمين بظاهريتهم الساذجة، ووثوقيتهم المحيِّرة، ورعونتهم المنقطعة النظير..

أردتُ أن يكون حواري مع الشيخ حمدا حوارا فكريا، متحررا من ضغط أحداث الساعة وصخب الساحة الإعلامية، حتى يضمن العمق، ويبتعد عن الإثارة قدر الإمكان.. لكن تسارع الأحداث وضيق الوقت والمساحة، ربما حالا دون ذلك..

وعلى كل حال، فأنا زعيم لكم، بأن تجدوا في هذا الحوار وضوحا منهجيا يبعثُ على الإعجاب، وعمقا نظريا يحملكم على التفكير العميق، وظرافة وأريحية تدفعكم إلى الابتسام..

ليست الفتوى الأخيرة لرابطة العلماء بشأن ظاهرة الرق هي الأولى من نوعها.. ما الجديد الذي أضافته إذن؟

في الحقيقة هذه الفتوى عبارة عن دعم لفتوى سابقة صدرت عن مجموعة من علماء موريتانيا سنة 1981، وعليه فهي تأكيد لتلك الفتوى، وإعادة الذاكرة لتلك الفتوى. لماذا ركزنا على تلك الفتوى؟ وما هي مضامين ومستندات تلك الفتوى؟ مضامين تلك الفتوى هي موازنة بين الأموال والأنفس.. ومن المعروف في المقاصد الشرعية أنه إذا تعارض المال مع الأنفس؛ قدمت الأنفس.. مثال: سفينة تتهيأ للغرق.. فيها ركاب وفيها بضائع.. فما هو الذي يلغى؟ هو البضائع وليس الأنفس.. لأن الشريعة الإسلامية جاءت لمقاصد: حفظ العقيدة.. حفظ النفس.. حفظ المال.. حفظ الأخلاق.. حفظ النسب.. وهي متدرجة حسب سلم الضروريات.. تسمى الضروريات.. وقد جاء جميع الأنبياء بالتوجيهات الربانية من الله تبارك طبقا لهذه الضروريات.. تعرف بالضروريات:

النفس والمال كذا الدين وجب ** حفظٌ لها والعرض أيضا والنسب

العالم لم يعد يفهم الرق، فأصبحنا مع مجموعات منا، حتى ولو لم تكن تطالب بالحرية؛ فإن القهر الحضاري يملي علينا التخلي عن هذا المال المهدِّد، وليس هذا بالأمر الجديد على الفقهاء.. أن يضحوا ببعض الأمور لفائدة مبدإ آخر.. فالقرآن الكريم جاء بهذه “السُّلَّمية”.. عندما ذهبت سرية عبد الله بن جحش فقتلت ابن الحضرمي في الأشهر الحرم.. انتهزت قريش الفرصة فأشاعت أن المسلمين ينتهكون مقدسات إبراهيمية وهي الأشهر الحرم.. قالوا: ها هي جماعة محمد صلى الله عليه وسلم ينتهكون الشهر الحرام.. فعندما رجعوا إلى المدينة المنورة وهم في حالة إدانة.. إدانة من الديانة الإبراهيمية القديمة.. إدانة من المجتمع الحضاري الذي كان يؤمن بتلك المقدسات.. كما يؤمن اليوم بمبادئ حقوق الإنسان؛ قدم الله تبارك وتعالى الجواب: (يسألونك عن الشهر الحرام).. زمان (قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل).. أكبر من القتل.. انظر.. الحرمة الزمانية إذا تعارضت مع الحرمة المكانية؛ فإن الحرمة الزمانية يُضحى بها لفائدة الحرمة المكانية.. فحرمة المكان وهو مكة.. والمسجد الحرام الذي أُخرج منه المسلمون قهرا؛ أشد من حرمة الشهر الحرام.. والفتنة أكبر من القتل.. فهذه الدوائر من المهم الانتباه إليها.. وكما يقول الإمام الشاطبي: ليس الفقيه من يعرف أن الخير خير من الشر، بل من يعرف أن بعض الشر خير من بعض..

هل صحيح أن “إنتاج الفتوى” يأتي دائما متأخرا في صورة “ردة فعل”؟ (فتوى إلغاء الرق تُقَدَّمُ مثالا على ذلك)..

اسمح لي أن أقول لك أن الفتوى ليست إنشاء، وإنما هي إخبار.. إخبار عن حكم لا على وجه الإلزام.. تتميز بأنها إخبار.. ومعنى الإخبار التجرد من الزمنية، لأنها حكم سواء كان للماضي أو للمستقبل أو الحاضر، فهي لا تحمل مدلول الزمن، لكنها تحمل معنى الاستمرار.. وتتقيد بما قيدتها به ضرورتها؛ فإن كانت ضرورية للماضي كانت للماضي فقط، وإن كانت للحاضر كانت للحاضر فقط..

ولهذا نحن قررنا أن لا نحفر التاريخ؛ لأن حفر التاريخ خطر، وأن نعتمد على مرجع يتميز بمميزات.. الميزة الأولى: أنها مرحلة كانت من آخر ما يوجد فيه خيرة العلماء. الميزة الثانية: أنها مرحلة من المراحل التي وصلت فيها الدولة المركزية إلى نضجها. ودعني أقول لك أن الفترة ما قبل الدولة المركزية ليست فيها مسؤولية على الدولة، وإنما المسؤولية آنذاك كانت مسؤولية أفراد.. شعب يكيد بعضه لبعض.. بدو.. أحياء. ودعني أخبرك أيضا أن طرح قضية هذا حلال وهذا حرام؛ بدأت في نفس المرحلة عندما أُعلن عن تطبيق الشريعة الإسلامية.. فكانت نوعا من الجواب على السؤال: ما هو حكم الرق؟.. كانت تكييفا لحكم الرق مع الزمن سنة 1981.

لكنها ليست رجعية (= مكررة).. لماذا؟ لأننا لا نحفر التاريخ، ولأننا…

أقاطعه: الفتوى الأخيرة ليست رجعية؟

أبدا، لماذا ليست رجعية؟ لا نريد أن نؤثم أناسا أنجبوا على أساس الرق القديم.. أبناء الإماء اللاتي كن إماء أحرار.. أولاد أشياخ.. أولاد أسر كبيرة.. أولاد أمراء حتى.. لا نريد أن ننشر عليهم هذا المعنى؛ بأن نجعل هذه الفتوى تتقيد بضرورة الزمن الذي ولدت فيه.. ولهذا قلنا “ابتداء من الآن”.. حتى يكون ذلك فيصلا.. حتى لا يكون تعميما.. واسمح لي أن أقول لك أننا كنا بين خيارين اثنين: خيار الزمن المفتوح، وله سلبياته، وخيار الاقتصار على فترة معينة.. تبدأ من وجود قوة الدولة المركزية، وهذا ما فضلناه؛ لتجنب الانعكاسات السلبية التي قد تنشأ عن تعميم أو عكس “إرجاعية” الفتوى الماضية.. لو كانت هذه الفتوى رجعية؛ كم من أولاد الأشياخ.. أولاد الأمراء… هذا خطير.. هذا خطير جدا.. ولهذا اسمح لي أن أقول لك أن أولئك الذين طالبوا برجعية هذه الفتوى.. أو حاولوا أن يجعلوها رجعية.. أو أفتوا بالرجعية فيها؛ عرضوا المجتمع وعرضوا أنفسهم لخطر.. لأنهم جعلوا مجموعة من أبناء هذا البلد لا نسب لهم.. وجعلوا مجموعة من نساء هذا البلد مومسات.. وجعلوا التلاحم الذي وقع ما بين أبناء أمهات الأولاد – هذا هو التعبير الإسلامي – جعلوهم في حالة فسق.. ما هي النتيجة من هذا؟ ما النتيجة من تأثيم أناس أصبحوا يشكلون نوعا من اللحمة بين الدم الإفريقي والدم العربي.. بين السيد والأمة.. دماء بعضها من بعض.. وفي الحقيقة تلك شبكة من شبكات الإسلام التي حول بها الرق …. الشبكة نشكرها على ماضيها ولا نريد أن نؤثمها في ماضيها.. لكننا نوقفها في فترة معينة، وهي سنة 81.

يلتبس في مدوناتنا الفقهية المعتمدة الوحيُ بالتاريخ، والدين بالتّدين، والمُعْطَى بالمُنْتَج.. هل تؤيدون الدعوات المطالبة بمراجعة هذه المدونات؛ لتنقيتها من شوائب العصور؟

هناك قاعدة أقترحها دائما على المدونات القانونية، سواء كانت فقهية أو غير ذلك.. ما هي؟ مقدمة تضع مجموعة من التعريفات للمفاهيم الواردة في النص، تفاديا لتميع الأفكار.. كلمة كذا تدل على كذا.. وهذا موجود عند بعض الدول.. وأنا اقترحته قديما.. أن نضع مقدمة لكل نص قانوني؛ تبين التعريفات للمداليل والمصطلحات الواردة في النص تفاديا لهذا التميع، وحتى أننا في مراجعتنا للتشريع الموريتاني أيضا وضعنا مجموعة من الضوابط مهمة جدا.. حيث قررنا أن هذه المداليل الواردة في النص يرجع فيها إلى المفهوم الإسلامي حتى لا يتلاعب المتلاعبون في المقاضاة والمحاماة بالاصطلاحات الغربية.. وأنه في حالة تشابه الدلالات يرجع إلى المفهوم الإسلامي، وليس المفهوم العلماني.

هل تجدون عذرا لأولئك الذين فقدوا ثقتَهم في الفتوى؟ وكيف تستعيد الفتوى “سلطتَها” في وقتنا الحالي؟

من هم الذين لا يثقون في هذه الفتوى؟ اسمح لي أن أقسم الناس تجاه هذه الفتوى الصادرة عن رابطة العلماء الموريتانيين، والتي هي ليست فتوى، وإنما هي إعادة ذاكرة لفتوى 1981؛ حيث كان خيرة العلماء إذ ذاك موجودين، وحيث كان وجود الدولة المركزية موجود، لأن ما قبل الدولة المركزية يصعب الحكم فيه، لأنه لا وجود لحاكم ولا محكوم ولا قانون.. من هم؟ أولا: مجموعة من المعاندين أو المكابرين الذين يرغبون فقط في أن يؤثموا التاريخ ويؤججوا النار.. هذا حرام.. هذا حرام.. الفتنة أكبر من القتل.. ما هي الفائدة اليوم أن نشعل النار بين السيد والمسود؟ ما هي الفائدة اليوم أن نجرم علماء ومشايخ ارتكبوا أحكاما شرعية في زمنهم؟ من هم الفقهاء الأفضل الذين سيحلون محل هؤلاء الذين أفتوا بفتوى 1981؟.. ننتقل من فتوى موثوقة.. من أناس أقرب إلى الورع في زمن أقرب إلى الطهارة إلى جماعة الله أعلم بها.. اسمح لي.. لا أريد أن أصفها..

الفئة الثانية: أناس يميلون إلى الإتيان بالغريب.. هناك عاطفة عند بعض المفكرين.. بعض الفقهاء.. بعض الناس.. يميلون دائما إلى الغريب.. ولهذا تراهم دائما كلما ظهرت إشكالية إسلامية؛ لجأوا إلى الأغرب.. وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه)، وليس التشابه هنا هو التشابه اللفظي فقط.. بل حتى التشابه المعنوي، والتشابه الحضاري.. مختلف أنماط التشابه.. مختلف أنماط التشكيك.. حتى أنهم يتساءلون: من هو العالم؟ ما هو العلم؟ ما هو المذهب؟ اتركوا لدينا مجموعة من المسلمات.. ولهذا اقترحت أن نضع مجموعة من التعريفات في المقدمة.. اقترحت أيضا أن نضع ضوابط للنصوص.. حيث قلنا إن كل ما لم يرد في هذه المدونات يُرجع فيه إلى مشهور مذهب مالك.. خلاص.. أغلقنا الباب.. يعني ليس هناك فراغ قانوني.. رجعنا أيضا في فهم الدلالات إلى أنه يجب أن يكون طبقا للمفاهيم الإسلامية وليس المفاهيم العلمانية.. أيضا أغلقنا الباب.

يبدو أن صوت القائلين بأنه ليس للإسلام نظرية خاصة في الحكم؛ هو الصوت الأعلى في أيامنا حتى في الحقل الإسلامي.. ولعل مستندَهم هو القاعدة التي قررها الشاطبي في “موافقاته”، وهي أن «أكثرَ أدلة العاديات مطلقةٌ وراجعة إلى معنى معقولٍ وُكِلَ إلى نَظَرِ المكلف»..

هل نحن ملزمون في هذا المجال بفقه “الأحكام السلطانية”؛ وقد تأكد أنه نظام مُسْتَفَادٌ – أساسا – من تقاليد الفرس العريقة في ممارسة الإدارة والحكم؟

دعني أقول لك إن تلاقي الحضارات ليس معناه الاقتباس.. لأن الحضارات عمل يُبنى على أساس الطبيعة البشرية، وهذه الطبيعة البشرية راعاها الإسلام أكثر.. (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون).. هذه الشريعة الإسلامية بشرية.. مشروع قريش (وقالوا لولا أنزل عليه ملك).. لكن ما هو الجواب الإلهي؟.. (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا).. أتيناهم برجل منهم.. اشتبه عليهم (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) هذا هو المطلوب..

فالجريان على الطابع البشري سنة إلهية، هي سر النجاح في الشريعة الإسلامية في زمن محمد صلى الله عليه وسلم.. لم تعتمد على معجزات.. إنما اعتمدت على الطبيعة البشرية.. أخذت العقل حيث يكون مع الوحي.. قال الشاطبي: “الوحي يرسم، والعقل يفهم”.. ليس العقل يرسم.. لا، الشرع يرسم.. يعني دور العقل ثانوي وليس أوليا.. ومن هنا فإن تقديم العقل على الوحي مذهب اعتزالي وتيه حضاري، لا نعرف أين نتوقف.. ما هو العقل الذي نتبعه؟ ألمانيا.. أمريكا.. روسيا؟.. أي فلسفة؟ الوجودية.. السارترية؟.. (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا).. نحن قلدنا العقل.. فلا بد أن نضع اسمح أن أقولها بالفرنسية Une borne “مرجعية”.. هذه المرجعية هي الوحي.. لأن الوحي يرسم، حيث يقول: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) من هو الذي يعلم التحولات الزمانية والمكانية والاحتمالات؟.. خذ تشريعا ما.. توزيع التركة مثلا.. توزيع التركة دائما نُتهم فيه أن نصيب المرأة أقل من نصيب الرجل.. أنا عندما قمت بحساب اكتشفت أن نصيب المرأة أكثر من نصيب الرجل.. المرأة تأخذ نفقتها أُما.. تأخذ نفقتها بنتا.. تأخذ نفقتها زوجة.. فهمتَ؟.. الرجل بالموازي لا يأخذ هذا.. تأخذ نصيبها بعد الوفاة.. قد يكون أكثر من الرجل.. اسمح لي أن أفاجئك بأنها قد ترث أكثر من الرجل.. لو أن رجلا توفي وله أخ لأب وبنت وأخت شقيقة.. ما هو نصيب الأخ لأب؟ يُحْرَم.. قد تكون مساوية له (فلأبويه لكل واحد منهما السدس).. الإخوة لأم يتساوى ذكرهم وأنثاهم.. قد تكون أقل.. وعندما تضع الدالة النهائية الرياضية في التركة؛ يحصل عندك أن المرأة أخذت: ما قبل الموت أكثر.. ما بعد الموت مساوية.. هذا رياضي.. إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية.

لكن مشكلة أولئك أنهم يحكمون دائما على جزئية معينة يعزلونها عن المنظور الكلي.. لكن عندما ترد القضية الجزئية إلى الأمور الكلية يتبين أن المرأة أخذت أكثر..

تُتَّهم البدائل الاقتصادية التي وضعتها المصرفية الإسلامية؛ بأنها بدائل “مُلَفَّقَة”، مختلَفٌ في جوازها في أحسن الأحوال.. هل من تعليق؟

ما هي البدائل الإسلامية؟ وما معنى البدائل الإسلامية؟ وهل لها أصل؟ أما أصل هذه القضية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء إلى أهل المدينة وجدهم يبيعون التمر الجيد بالتمر الرديء كيلا بكيل بالتفاضل.. رطلين من هذا برطل من ذاك.. رطلين من الرديء برطل من الجيد.. ماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا.. أبطلَ هذه الصورة، لكن لم يتوقف عند إبطالها، بل قدم البديل.. ولكن بيعوا هذا واشتروا بثمنه ذاك.. “واشتروا بثمنه ذاك” هي البديل، والبديل الإسلامي عبارة عن… اسمح لي أن أقول لك أن الحيلة في نفسها؛ تنقسم إلى ثلاثة أنواع كما بينه الشاطبي.. حيلة مرفوضة تماما، وهي حيلة أبطلت أصلا ومقصدا شرعيا.. حيلة مشروعة تماما، وهي حيلة وضعها الشارع لتحويل ما كان ممنوعا إلى الإباحة.. حيلة مترددة بين هذا وذاك، وتلك هي طبيعة الفقه.. الدائرة الترددية دائما بين هذا وذاك.. ما هو مثال الحيلة المحولة للحرام إلى الحلال؟ هي الذبح.. هي العقد.. العقد.. هذه المرأة كانت حراما، بكلمة بسيطة تحولت إلى مباحة.. هذا تحويل.. لكن هذه الحيلة مشرَّعة من طرف الشارع.. الحيلة المترددة بين هذا وذاك؛ هي حيلة لم تبطل مقصدا لكنها أوصلت إلى مباح مُتَرَدَّدٌ فيه بين العلماء.. الشافعي مثلا يقول إن بيوع العينة غير ممنوعة.. لماذا؟ لأنه لا يراعي الذريعة.. والذرائع محل نظر كما بينه الشاطبي في موافقاته، وقد بينتُ ذلك في اختصار الموافقات للشاطبي.. ذريعة أوصلت إلى حلال هي النكاح.. هي الشراء، حَوَّلَ ملك الغير إلى ملكي.. هي الذبح؛ حَوَّلَ الميتة إلى حلال.. حيلة أبطلت مقصدا شرعيا.. مثل ماذا؟.. (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله).. هذه سدت بابا.. لكن حيلة لم تسد بابا ولم تحول محل التردد، وهذا شأن الفقه دائما.. ما هو الفقه النظري؟ هو المتردد بين قواعد.. هذه قاعدة تبيحه وهذه قاعدة تمنعه وهذا هو المذهب.. فالعلماء منهم من يضع قواعد لهذا التردد.. الشافعي أبطل الذريعة.. لم يراع الذريعة.. حتى أبو حنيفة في إحدى الروايات عنه أبطل الذريعة.. مالك يقول بالذريعة.. ونقرأ أيضا في مختصر الشيخ خليل مفتاحا غريبا جدا؛ يمر به الفقهاء لكن لا يتقنون المرور به: “وكره خذ بمائة ما بثمانين”.. وكره.. لم يقل: ومنع.. مع أن الشراح يقولون بالمنع..

نصل الآن إلى قضية البدائل الإسلامية في المصارف..

عند الحديث عن البدائل.. نطرح عدة أسئلة: ما هي الذريعة التي تسد؟ وما هي الذريعة التي لا تسد؟ مبحث كبير.. أرجو أن تراجعوا الموافقات للشاطبي.. القرافي.. مختلف المذاهب.. القاعدة الثانية التي يجب أن تبحث أيضا: ما معنى النقدية؟ هل النقد ما غلب استعماله؟ أم النقد توقيفي على الذهب والفضة فقط.. لماذا؟ لأن الذهب والفضة لهما قيمة أخلاقية ذاتية، لا تتوقف على طبع السلطان، بينما الورقة النقدية.. الورقة المعاملاتية؛ ورقة تحمل قيمة بمجرد إبطالها من الناحية القانونية تصبح لا فائدة فيها، مع أن النقد؛ حتى النحاسي بعد إبطاله يمكن أن يكون “خرص اجمل” أو خاتما أو سوارا إلى غير ذلك.. فالنقدية محل بحث.. وقد أوردت ذلك في كتاب جمعتُ فيه ما يزيد على ثلاث وأربعين مسألة.. وجه الندرة فيها أنها مسائل جديدة تحدث عنها القدماء:

وقد بدت في زمني مسائل ** ضنت بها الكتب وضل الجاهل

فلم أزل أبحث في طياتها ** ومللُ النفوس من آفاتها

حتى وجدت بعضها عيانا ** فقلت معلنا به إعلانا

ولا أقول إنها فتاوي ** بل إنها نقل رواه الراوي

إذ تحرم الفتوى بغير الأقوى ** ولم يَجُز تجاسر في الفتوى

لكنها لما جرت بين الورى ** وشرعيَّ الوجه التمس لما جرى

من أجل ذا جمعتها في النظم ** وعزوها مساعد للفهم

حتى يراها عالم لم يرها ** ويستبين جاهل منظرها

هذا الكتاب مطبوع؟

مطبوع.. طبع مرتين، طبع في موريتانيا وطبع في دبي..

موجود في المكتبات الآن؟

موجود.. ونفيس جدا..

أبانت شبكات التواصل الاجتماعي – في أيامنا هذه – عن قدر هائل من الاختلاف بين نُخَبِنَا حول قضايا مشتركة ومصيرية، من قبيل: المشروع المجتمعي.. النظام السياسي.. مرجعية الحكم.. والموقف من التراث… إلخ.

من موقعكم كفقيه ومفكر إسلامي؛ هل من سبيل إلى احتواء هذه الخلافات، و”تدبيرها” تدبيرا لا يُقصي طرفا ولا ينحاز لطرف؟

اسمح لي أن أقول لك أولا إن الدولة الإسلامية قامت تلقائيا عندما قامت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. ولدت الدولة تلقائيا.. من غير مؤتمر.. ما معنى أن الدولة ولدت تلقائيا؟ أنه لم يُعقد مؤتمر لإنشاء الدولة.. تعالوا قريش.. تعالوا الأنصار.. تعالوا العرب.. سنقيم دولة.. لا.. لكن ما هي الدولة؟ حاكم.. سلطة زمنية.. مكان سلطة.. ممنوعات.. شعار.. علم.. جيش.. هل وجدت هذه الأشياء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما دامت وجدت؛ فمعناه أن الدولة وجدت.

لكن تنتقل القضية إلى طابعها البشري في سقيفة بني ساعدة، بعد منام النبي صلى الله عليه وسلم.. واسمح لي أن أقول لك “منام” أدبا، طبعا (إنك ميت وإنهم ميتون).. أعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم يموت.. لكن الكلمات فيها ما هو أديب وفيها ما هو.. والله تعالى يقول: (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا).. فأعرض عن بعض المصطلحات.. نفس المساوي لها كأدب.. عندما نام النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع القوم في سقيفة بني ساعدة.. قبل أن يدفن صلى الله عليه وسلم.. ظهرت عدة شعارات.. الشعار الأول: شعار الأنصار، منا أمير ومنكم أمير.. تقسيم السلطة.. أنتم المهاجرون لديكم سلطة، لكن نحن الأنصار الذين كنا هنا لدينا سلطة أيضا.. الشعار الثاني: شعار دسه عبد الله بن سبأ اليهودي، قال كلمة خير أريد بها شر: إن هذا الأمر كان في هذا البيت، ويجب أن يبقى فيه.. وكان هذا بذرة انطلاقة الشيعة.. الشعار الثالث الذي ظهر؛ هو شعار المرتدين: كان بيننا عهد مع هذا الرجل وقد ذهب.. خلاص.. فلا علاقة لنا مع أبي بكر ولا عمر ولا الدولة الإسلامية.. الردة.. وكان موقف أبي بكر أشد من موقف عمر، وهذا مما لا يفهمه كثير من الناس.. مثل موقفه عند المنام.. مثل موقفه في الإسراء.. فقد كان أبو بكر قويا عند المحطات الكبرى، لكنه مرن في غير ذلك.. قال: والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقاتلتهم عليه.. يعتبر أن رموز الولاء الإسلامي جزء من الإسلام.. يعتبر أن منع هذه الزكاة جزء من الإسلام؛ فقاتلهم عليه.. ما هو الشعار الأخير الذي رفعه أبو بكر؟ هو تحليل أقرب ما يكون إلى التحاليل السياسية في زمننا: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من مضر.. آويتم ونصرتم، فجزاكم الله خيرا.. منا الأمراء ومنكم الوزراء.. لم يقل: إن المسلمين.. إن العرب.. المرجعية الذهنية في بيان أبي بكر ترجع إلى مركز القوة، أو ما يعرف اليوم بالحزب الغالب.. الأغلبية.. إن العرب لا تدين أي لا تطيع.. إلا لهذا الحي من مضر.. يطوي قضية في شكل مركب.. إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من مضر.. نحن هم حي مضر.. فعليكم أن تتركوا لنا الإمارة.. لكن نعطيكم الوزارة.. توزيع حقائب.. بادر عمر فبايع أبا بكر وانطلقت الأمور بسلام، ونشأت الدولة البشرية، بعيدا عن جاء جبريل يحمل آية أو كذا.. هذه المرة انطلقت من الطابع البشري، لأن أبا بكر اعتمد على تحليل ديموغرافي إذا صح التعبير.. إن العرب.. لم يقل إن المسلمين.. فهمتَ هذا؟..

ومن هنا نفهم أن هذه الشريعة الإسلامية ذات طابع بشري، لكنها موجهة بأساليب مقدسة، هي المقاصد العليا للقرآن والسنة، فإذا اقتربت من هذه المنطقة تقاصرت الطبيعة البشرية.. تقاصرت.. كلما اقتربت من هذه المحطة بدأ الوحي يأخذ مكانته، ولهذا نرى أن مناطق التداخل في الاجتهاد والقياس تقوم على هذا الأساس.. ولهذا نشأت كلمة تعبدي ومعلل واجتهادي وعلة، إلى غير ذلك من المصطلحات التي ظهرت في التشريع الإسلامي..

أشرتم إلى البذرة الأولى للتشيع.. هل من كلمة عن المد الشيعي، وما يقال عن وجود شيعة في موريتانيا؟

يجب أن نحدد الدلالات حتى نتفق في الأحكام.. إذا كان التشيع هو محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والاعتراف بمكانتهم فكلنا شيعة.. كلنا شيعة.. لكن إذا كان التشيع هو إعطاء الحكم لعلي قبل أبي بكر، خروجا على قاعدة الترتيبات التي وضعها صلى الله عليه وسلم: مروا أبا بكر فليصل بالناس.. إنكن لأنتن صواحب يوسف.. فنحن نختلف مع هذا الطرح.. فالخلاف أصلا سياسي، لكنه – وهذا طبيعة النظم، أنها تحول السياسي إلى التعبدي.. تحوله إلى تشريعات.. فأصبح لهؤلاء فقه كما لأهل السنة فقه، وأصبح لديهم سند في الحديث، فكل ما لم يروه مشايخهم لا يعتبرونه صحيحا.. البخاري مثلا ليس حجة عندهم.. أبو بكر غير معترف به عندهم.. لا نقبل هذا.. فليقبلوا أبا بكر.. فليقبلوا عمر.. ليقبلوا البخاري.. ليقبلوا عائشة.. إذا فعلوا ذلك فنحن معهم سواء.

ودعني أخبرك أن طبيعة موريتانيا تقبل كل شيء، لكن لا تقتنع بشيء.. موريتانيا مفتوحة ومرنة.. لكن القناعة في النهاية عندما تبحث مع الناس؛ تجد أنها غير موجودة.. الماركسية أخذت مكانها.. الماسونية أخذت مكانها.. فكيف لا تأخذ الشيعة مكانها عندنا.. وهي مذهب من مذاهب الإسلام؟ فمن المعقول أن تظهر الشيعة عندنا.. عندنا السلفية.. لكن يجب أن يبقى الغربال الأصلي بأيدي العلماء، حتى نميز الخبيث من الطيب، وحتى نقول لذاك لا، ولهذا نعم.. حتى نضع الأمور في مسارها.

تميلون إلى محاورة الشباب والاستماع إليه ومساعدته في حل مشاكله.. هل تقدمون تفسيرا لظاهرة الإلحاد والنيل من المقدسات المتصاعدة في صفوف الشباب؟ وما السبيل إلى معالجتها؟

دعني أكرر أن الموريتاني – كما قلت – يقبل كل شيء ولا يقتنع بشيء.. هذا خطير.. هذا تميع ناتج عن غياب الدولة المركزية.. الإلزامية القانونية.. لأننا ما نشأنا في دولة.. ما عرفنا دولة.. عرفنا أفرادا.. عرفنا قبائل، لكننا لم نعرف دولة.. ونتيجة لهذا التميع… أخطر من ذلك هناك تقسيمات ثلاثية خطيرة جدا.. هي نوع من توزيع “التدين” أو “لا تدين” بين المجموعات.. الزوايا ينبغي أن يكونوا متدينين.. لماذ؟ حسان ليس عليهم أن يتدينوا.. هذا غير صحيح.. حسان والزوايا والرعاة؛ كلهم عبيد لله ومتساوون في الخطاب ويجب عليهم الامتثال على حد سواء.. والعلم لهم جميعا.. ليس حكرا على الزوايا.. وهذا شهده تاريخنا.. علماء أولاد داود.. علماء أولاد يونس.. علماء المغافرة عندنا.. علماء إدوعيش.. فيهم علماء.. فليس هناك علم لمجموعة معينة، أو جهل لمجموعة معينة، أو تدين لمجموعة معينة..

أتذكر في بداية نشأة انواكشوط.. أننا في جلسات العمل إذا حان وقت الصلاة؛ يصعب على الفرد أن يقول: هيا، لنصل.. فالمتدين يصلي وحده.. وقد يصلون أفرادا.. أما اليوم فالحمد لله.. العاصمة انواكشوط في الزمن الماضي.. تفرغ زينه بالذات لم يكن فيها من المساجد إلا دائرة من اللَّبِن لدى قائد فرقة الموسيقى العسكرية قرب دكان اكَّاه.. كانت هناك دائرة من اللَّبِن يؤذن فيها قائد فرقة الموسيقى العسكرية.. هذا هو المسجد الوحيد في عموم تفرغ زينه.. كم فيها اليوم من مئذنة؟ كم فيها من مسجد؟ كم فيها من عالم أيضا؟ الحمد لله الدنيا بخير.. الدنيا بخير.

والإلحاد في الحقيقة كانت له دلالة.. كان مما يدل على ثقافة أصحاب الباكلوريا أنهم ملحدون.. فإذا لم يكن ملحدا؛ فمعناه أنه لم يدرس الفلسفة.. وإذا درس الفلسفة فعليه أن يشك.. المرحلة الديكارتية.. وكان عليه أيضا أن يبتعد عن “اسْتَزْوِي” حتى يتبين أنه مثقف.. يعني نوع من “اگْلِيعْ لَعْظَامْ”.. ولهذا ظهرت في الزوايا أكثر من حسان.. وهذا مشاهد.. لا أتذكر أبدا أن أحدا من المغافرة ولا من إدوعيش تظاهر بالإلحاد، بينما ظهرت أدبيات وأغنيات وأشعار بين الذين ينتمون إلى بيوت متدينة.. لا أريد أن أُعَيِّن.

وُصِفَ الرئيس محمد ولد عبد العزيز مؤخرا بأنه “رئيس العمل الإسلامي”، ولقي تصريحه بأن الدولة الموريتانية ليست علمانية صدى واسعا.. أين تضعونه أنتم؟

دعني أقول لك إن رؤساء موريتانيا على مر التاريخ؛ كل واحد منهم وضع لَبِنة، وهذه اللَّبِنات إذا اجتمعت كونت جدار موريتانيا التاريخي.. وهذا طبيعي أن الأمة لا يبنيها جيل واحد، ولا مجموعة واحدة ولا رئيس واحد.. مصر كم بناها من رئيس؟ فالتاريخ بناء تراكمي لمختلف الأجيال.. إذا كان المختار ولد داداه أسس دولة.. إذا كان ولد هيداله أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية.. فإن الرئيس محمد ولد عبد العزيز قام بإنشاء عمليات إسلامية ميدانية عملية.. واسمح لي أن أقول لك أنني جئته مع مكتب رابطة العلماء، وقلت له بالحرف الواحد، وسأقولها بالحسانية للأمانة التاريخية: السيد الرئيس جئناكم مهنئين.. لكن لدينا مطالب ليست من جنس المطالب التي تأتيكم.. فالتفت إلى مستشاره إذ ذاك، وقال له: اكتب.. قلت له: السيد الرئيس، موريتانيا بلد معروف بحفظ القرآن، لكنه ما زال يقرؤه في المصاحف القادمة من عند الآخرين.. لماذا لا تطبعون المصحف الموريتاني؟ السيد الرئيس، العاصمة لا يوجد فيها مسجد يحمل اسم موريتانيا.. فيها مسجد السعودية.. مسجد المغرب.. ينبغي أن يكون عندنا مسجدنا.. فبدأ مشروع المسجد الذي سيؤوي إن شاء الله أكثر من خمسة عشر ألف مصل، إلى غير ذلك من مختلف الاقترحات الإسلامية.. وأعلن وقتها تنفيذ تلك الأوامر كلها.. قلت له: ومما يساعدكم على دعم هذا العمل جباية الزكاة.. فقال لي: أخاف أن يتحايل عليها مسؤولوها.. كانت هذه في الحقيقة التفاتة لها أن تبحث.. لأنه من الممكن أن نضع ضوابط تحول دون التحايل.. لكن على كل حال هو لم يعترض عليها من حيث المبدإ.. اعترض عليها من حيث الواقع.

يرى البعض أن ميلَ الثقافة الشنقيطية إلى تمجيد “ثقافة الفتوة” (الاسم المحلي للثقافة الأفقية) على حساب عمق المعرفة؛ أدى إلى غياب الفكر النقدي بجناحيه: التحليلي والتركيبي، ومن ثَمَّ إلى غياب الإبداع في جميع مجالات المعرفة المتداولة.. هل توافقون؟

أوافق وأخالف.. أوافق لأن الواقع أننا لم نشهد مدرسة نقدية تسير بثقافتنا إلى خط نقدي متتابع.. بل كانت شذرات مترامية، غير متماسكة فيما بينها.. لكن اسمح لي أن أقول لك إن الإنسان الموريتاني غريب جدا.. كل إنسان موريتاني رئيس.. كل إنسان موريتاني ناقد.. كل إنسان موريتاني أديب.. يعني أن كل إنسان يدعي كل شيء.. وهذا ما أدى إلى وجود نقد عند كل أحد.. وأوجد متابعة الفكر عند كل أحد.. وأوجد حرية العقل عند كل أحد.. والتي زادت على حدها.. وأصبحت اليوم خطرا.. حرية الفكر مهمة جدا، لكن من الظلم أن نُجري العقل في غير مجراه، كما أنه من الظلم أن نمنع العقل من مجراه.. نعم لعقلٍ يجري في مجرى العقل، ولا لعقلٍ يجري في مجرى التعبديات أو الوحي.. فليس هناك إذن منع من أن نظل مفكرين نقديين.. لكن يجب أن تكون هناك خطوط حمراء مقدسة، لا يُسأل عنها.. لا يُتناقش فيها، حتى ولو وقع بيننا نقاش، فإنه يجب أن يكون متقيدا أيضا بالآداب النزيهة، وأن يكون ساميا.. أن لا يكون معركة ساعة، وتختفي  بالكلام أو بالمشاحة أوالضرب وغير ذلك..

هل تحدثونا عن ذكريات عَلِقَتْ بذاكرتكم في المحطات التالية:

مرحلة الدراسة في تونس؟

مرحلة الدراسة في تونس.. أحدثكم عن ذكرى غريبة جدا.. هي أنني وصلت إلى تونس في الليل بالطائرة.. وكان الوقت حينها في رمضان، وأصبحنا صياما.. كنت ألبس البذلة المدنية والنعل.. ولم أكن أعرف أن السرير فيه لباس وغطاء يُدخل فيه، ولم أعرف أنه بإمكاني أن أخلع ثيابي المدنية لكي ألبس الثياب التقليدية، فبت فوق السرير والبرد قارس جدا..

الشيء الثاني هو أنني كنت أنتظر أن يأتي رب البيت أو ربة البيت أو العامل أو الخدام؛ ليوقظني على العشاء كما هي العادة الموريتانية، فبت أنتظر الليل كله، ولم يصل.. وأصبحتُ صائما..

الشيء الثالث هو أننا جئنا إلى تونس نظن أننا عباقرة.. لكن عند الاختبار الأول من أساتذتنا؛ كان أحسننا حظا من حصل على 2 على عشرين 20.. كانت وخزة لكبح عقدة التفوق.. وهذا معروف عندهم.. “تحريك السواكن” كتاب تربوي وضعه مفكر ومربٍّ كبير.. يؤمن بأنه من الضروري أن نصقل الذهن أولا ثم نبنيه ثانيا..

مرحلة التدريس بمعهد أبي تلميت؟

المعهد العالي كان امتحانا آخر.. وجدت كوكبة من خريجي المحاظر…

كان هذا قبل السفر إلى تونس أو بعده؟

بعده.. كوكبة من أبناء المحاظر من كل جهات موريتانيا.. هذا حافظ.. هذا يقرأ الألفية.. هذا يقرأ خليل.. وكنت أول من يتحدث بالحداثة معهم.. فكانوا يلجأون إلي في طرح الإشكالات.. أتذكر أنهم سألوني مرة: كيف نستدل على العقيدة؟ فأعدت السؤال إليهم على الشكل التالي: هل وسائل الإدراك أكثر أم المدرَكات؟.. وسائل الإدراك هي الحواس: الذوق… إلخ، والمدركات هي الكون… إلخ. فأيهما أكثر؟ المدركات أكثر. ما دامت المدرَكات أكثر فمعناه أن العقل محدود، وما دام العقل محدودا فمعناه أن هناك أشياء لا ندركها وهي موجودة.. ومن هنا أنشأتُ قصيدة.. كان الشعر في موريتانيا هو لغة العلم:

انظر إلى هذا الوجود فإنه ** لغز يحار العقل في تحليله

نظر المفكر حوله فتتابعت ** نقط السؤال وحار في تعليله

سر الحقيقة في الحقيقة كامن ** لا تستطيع البت في تفصيله

فككت منه ذرة عن شكلها ** هلا تركت الذر في تشكيله

وذهبت في الصاروخ تكتشف الفضا ** ماذا عرفت من الفضا وجميله

فكر وراء الكون تعلم سره ** لا تجعل التفكير في إكليله

فالفكر إلا بالرسالة قاصر ** حلق الرسالة جئن في توصيله

لو أعطي الإنسان سادس حسه ** لبدا خبي كان في منديله

لو يحرم الإنسان نور عيونه ** ما أدرك الألوان في تمثيله

إلى آخر ذلك.. يعني فرضية نقص حاسة وزيادة حاسة.. ماذا ينشأ عن زيادة حاسة سادسة؟ وماذا ينشأ عن نقص حاسة رابعة؟..

مرحلة تقلد الوزارة؟

تقلد الوزارة.. عندما استدعاني الرئيس المختار ولد داداه.. أولا استدعيتُ لأكون مديرا للتوجيه الإسلامي.. كنت أولَ مدير للشؤون الإسلامية.. لم يكن هناك عمل كبير.. رمضان.. محاضرات في بعض الأحيان.. أيام موسمية.. حضور مؤتمرات دولية.. لكن عندما جاءت الوزارة كانت أشياء أخرى..

عندما استدعاني المختار رحمه الله وجزاه خيرا عن هذا البلد وعنا؛ قال لي: نحن قررنا أن نحول إدارتكم إلى وزارة.. قلت له: السيد الرئيس، أشكركم على هذه الثقة، لكن اسمحوا لي بتقديم ثلاث ملاحظات.. الملاحظة الأولى: ملاحظة لغوية، وهي أن العمل الجاري في بلدنا يجري باللغة الفرنسية، وأنا لا أجيد الفرنسية.. لا أعرفها.. الملاحظة الثانية: هي أن المستعمر الفرنسي وضع بذورا لكل وزارة قبل ذهابه إلا الشؤون الإسلامية.. ما فيه ملف.. بذور.. أسس.. كيف تكون.. الملاحظة الثالثة: هي أني أرى القطاعية Secteurialisme .. أن وضع الإسلام في شكل قطاعي ينافي طبيعة الإسلام.. لأنه يشمل كل شيء.. والشيء الذي يشمل كل شيء؛ وضعُه في قطاعية نوعٌ من السجن له والحبس له، وتضييقٌ لمهمته، فلو أنكم جعلتموها مؤسسة؛ تبدأ هي تبني نفسها كما ترى، أو كما تمليها عليها التجربة، أو كما موجود في تجارب الدول الإسلامية..

فقال رحمه الله بكل بساطة: أما بالنسبة للغة فأنا مترجم.. سوف أتكفل بالترجمة.. بكل بساطة، ووفى بذلك الوعد.. كنت أتكلم باللغة الفصحى في المجالس وهو يترجم، ويقول لي: الإمام، هل بقي شيء من الفكرة؟ بكل صراحة.. كان عهدا ذهبيا.. أما بالنسبة للنقطة الثانية فهي التجربة.. سوف نطلع على تجربة العمل الإسلامي.. وسوف يُوَسَّع حسب هذه التجربة.. إن شاء الله نوسعه إذا رأينا توسيعه.. نفتح بوابات على الآخرين إذا رأينا ذلك.. كان مرنا.. كان رجلا عظيما..

وفي ممارسة الوزارة؟

في ممارسة الوزارة؛ وجدت إشكالية، لأنني وجدت أشخاصا كل واحد منهم وزارة للشؤون الإسلامية.. بداه ولد البوصيري وزارة.. محمد فال ولد البناني وزارة للشؤون الإسلامية.. محمود باه صاحب مدارس الفلاح أيضا.. مشايخ التصوف كلهم وزراء.. لأن الجميع يرى أنه المسؤول عن الإسلام، وعن التنظير للإسلام، وعن العمل للإسلام، ويحاكمنا نحن على أننا لم نتعاون معه.. ونتيجة لذلك كنا نعمل حسب المتاح..

والشيء الآخر الذي فوجئت به هو حضور المؤتمرات الإسلامية.. المؤتمرات الإسلامية كانت قريبة من الخارجية.. لكن كنا نحن أكثر حظا فيها.. كل المؤتمرات الإسلامية نذهب إليها مع وزير الخارجية وقد نذهب وحدنا.. فكنا وزارة خارجية للشؤون الإسلامية.. كنا مسؤولين عن القضايا الخارجية للإسلام..

وقد لعبت هذه الوزارة في ذلك العهد دورا سياسيا.. أتذكر أن موريتانيا كانت في حرب الصحراء، ولم تكن ليبيا إلى جانبها.. فانعقد المؤتمر الثامن للعالم الإسلامي في ليبيا.. وكنا وقتها في المؤتمر مع المرحوم حمدي ولد مكناس.. هو عن الخارجية وعن الشؤون الإسلامية، ومعنا شخصيات أخرى.. سليمان ولد الشيخ سيديا.. أحمد ولد منيه.. إلخ.. جاءنا التريكي (وزير الخارجية الليبي آنذاك) في آخر ليلة للمؤتمر.. ليلة الاختتام.. واقترح فكرة.. هي أنه يرغب أن يتم اختتام المؤتمر بقصيدة.. وأنه طلب ذلك من الدول العربية فلم يجد إجابة.. التفت إلي حمدي قائلا: هل يمكن أن نفعل شيئا؟ قلت له: طبعا.. لكن بشروط – والتريكي معنا يسمع -.. ما هي الشروط؟ أولا: أن تُلقى القصيدة من المنصة وليس من المنبر العادي.. ثانيا: أن تعتبر القصيدة من وثائق المؤتمر.. ثالثا: أن تترجم القصيدة إلى اللغات التي ترجمت إليها وثائق المؤتمر.. التريكي قَبِلَ كل هذه الشروط.. فكان أول الجلسة هو ما يعنينا نحن.. عندما لما ذهبت إلى الغرفة للنوم.. بحثت عن الورق فلم أجده.. لكن وجدت قميصا فيه بداخله ورقة مقواة (تكون بداخل القمصان الجديدة).. أخذتها وكتبت فيها قصيدة:

الله أكبر إنه الإيمان ** قد ضمنا ودليلنا القرآن

سأعطيكم نسخة من هذه القصيدة.. كتبتها.. وحين جئت في الصباح، تلقاني القوم وَجِلِين.. يتساءلون: هل سنقدم شيئا؟ فقلت لهم: خلاص، كونوا بخير.. الدنيا بخير.. وحين ألقيت القصيدة من فوق المنصة، وترجمت إلى اللغات، وأنا أضع السماعات للتحقق من أنها ترجمت.. حملني الناس على أيديهم.. فخرجت موريتانيا منتصرة أمام ليبيا التي لم تكن إلى جانبها.. ولهذا كانت نجاحا دبلوماسيا في تاريخ موريتانيا..

مرحلة رئاسة رابطة العلماء؟

ما هي رابطة العلماء؟ وكيف ولدت؟ تتذكرون أن فكرة رابطة للعلماء الموريتانيين كانت فكرة قديمة.. فقد كانت هناك محاولة من مجموعة.. وكان على رأسها الشيخ عبد الله ولد بيه ومعه آخرون.. تقدموا إلى وزارة الخارجية ووافقت على إنشاء هذه الرابطة…

في أي عهد؟

في عهد معاوية.. لكن عندما جلسوا للبدء في العمل؛ جاءتهم الأوامر بتوقيف ذلك.. شكوا فيهم.. تذهب الأيام وتجيء.. ويأتيني الأخ عبدو محم، ويقول لي: يبدو أن الدولة أصبحت لديها فكرة إنشاء رابطة للعلماء.. ويريد مني أن أبدأ في تنظيم وثائقها.. دعوت گاگيه، حيث كانت لديه تجربة في العمل الإسلامي (الجمعية الثقافية).. وقلت له: سِرْ بنا إلى رجلين؛ نختار أحدهما رئيسا.. الشيخ عدود والشيخ اباه ولد عبد الله.. زرنا الشيخ عدود في البادية.. وكان عدود رجلا حذرا.. قال إنه لا يستطيع الإقدام على أمر لم تأمره به الدولة.. قلت له: هذا لا علاقة له بأوامر الدولة.. هذه رابطة كرابطات الفنانين وبائعي اللحوم.. هذه ONG.. أريد التخفيف عليه، على كل حال رفض.. ذهبنا إلى الشيخ اباه، فقال لنا: أنا معكم في كل تفعلونه.

ذهبنا ووضعنا الميثاق.. النظام الخاص والبنى الهيكلية وغير ذلك، ثم بدأنا نتحرك، وجمعنا أعضاء المكتب ووافقوا على ذلك.. فكانت الانطلاقة.. وجلست مع الرئيس السابق معاوية وقلت له: ليست لدينا وسائل.. قدموا لنا شيئا نتحرك به.. فأعطى الأوامر لوزارة محو الأمية بأن تتنازل لنا عن 700 مليون أوقية، ليصبح تحت تصرفنا، وفعلا كان تحت تصرفنا.. وبدأنا في الأنشطة والمؤتمرات والمحاور والمساجد والأئمة إلى غير ذلك..

حتى إذا كان زمن يحي ولد سيدي المصطف طلب مني أن يكون للأئمة نظام متميز عن الرابطة.. قلت له: ليس لدي حرص على شيء.. افعل ما بدا لك.. فتنازلنا لهم عن نصف الميزانية وتنازلنا لهم عن مكاتب.. وأنشأوا رابطة للأئمة.. وهكذا نشأت رابطة العلماء ورابطة الأئمة.. وظلت بين مد وجزر.. بين من ينظر إليها على أنها وافدة أجنبية غريبة.. وبين من ينظر إليها على أنها داعية خير.. كنا في هذه اللعبة  نتأرجح مثل إنسان يسير في متاهة لا يدري أين يذهب.. فالعمل الإسلامي يحتاج إلى ما يعرف بالمذهب الاستراتيجي أكثر من العلم..

وقتها قرأت كتابا لكاتب أمريكي يدعى “كارنيجي”.. لا أدري هل قرأتموه؟ قرأتُ لهذا الكاتب؛ فلاحظت أنه عبر عن الأفكار الإسلامية بلغة أمريكية..

أعتقد أن محمد الغزالي يرى رأيك.. لأنه كتب كتابه الشهير “جدد حياتك” بوحي من هذا الكتاب..

ضروري.. ضروري.. أنا أرى أنه كما أخذنا المنطق من اليونان نأخذ الأسلوب الاستراتيجي وعدم المواجهة أيضا.. بالأمس كنت في حديث مع أحد الإخوة.. نريد إرسال رسالة إلى أحد المسؤولين.. فقال هو: طبقا للتعاليم الإسلامية.. فقلت له: لا، طبقا للاستراتيجية الماركتينية (التسويقية).. أنت تخاطب أهل المال.. خاطبهم إذن بلغتهم.. وضربت مثالا ضربه “كارنيجي” مفاده أن من أراد أن يصيد سمكة فلن يضع في صنارته عسلا وزبدا.. بل سيضع دودة.. يعني اجلب لخصمك رغبته..

السؤال الأخير في هذه المقابلة.. سِرُّ أهل العاقل (أقصد العلمَ تحديدا)؛ هل يمكن تفسيرُ كَوْنِهِ وراثيا؟

والله لا أعرف إن كان لأهل العاقل سر أم لا؟ جزى الله الآخَرين.. كل قبيلة أتحفوها بشيء.. كلام إدابلحسن.. كلام أولاد دَمَان.. كلام أولاد ديمان.. سر أهل العاقل.. العلم جكني.. كل قبيلة لها وِسَام.. وهذا من مزايا الموريتانيين..

ما هو سر أهل العاقل؟ صراحة سأفاجئكم بأن سر أهل العاقل الحقيقي هو قبول الآخر.. جدنا ببها كان يقول: افعلوا للناس ما يريدونه، ولا تفعلوا لهم ما تريدونه.. ما يريدونه هو ما سيريحكم.. وكان يقول: إن السكر إذا لم تتم تحلية الشراب به، فلن يكون حلوا.. يجب أن نحلي الشراب للضيف.. وكان يقول: من جاءكم فابحثوا عن الخصال التي تجمعكم به، وابتعدوا عن الخصال التي تميزكم عنه.. نوع من الاستراتيجية الاجتماعية..

وهكذا كان أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم.. أنا أفكر في مشروع كتاب يضم بيانات النبي صلى الله عليه وسلم.. البيانات الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.. صدرت عنه بيانات عظيمة جدا.. يمكن أن تجمع في كتاب، وأن تكون مرجعا للاستراتيجية.. مثلا: “لا أريد أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه” هذا مبدأ.. وقوله لعائشة: “لولا قومك حديثو عهد بالكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم”.. مراعاة الظرف.. قوله: “إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة”.. وقوله صلى الله عليه وسلم: “حدثوا الناس بما يفهمون.. أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟”.. إلى غير ذلك من الإعلانات النبوية التي تحمل معاني غريبة جدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى