مع شاي الصباح

مع شاي الصباح (مَنْسِيُّون لم يشملهم الإنصاف!)

أحمد سالم ولد باب

قبل سنتين تقريبا اتَّصَلَ بي بعضُ السجناء السلفيين، المطالِبين بالحوار مع الحكومة، وحَمَّلُونِي، على مدى أشهر، عدة رسائل يعلنون فيها توبتهم، ورغبتهم في حوار جديد مع السلطة، يُفْضِي إلى إطلاق سراحهم، ويمنحهم فرصة للحياة الطبيعية مع أحبابهم، يندمجون فيها بالمجتمع، ويحاولون إصلاح ما فات..

وقد استطعت آنذاك الحصول على حوار مهم معهم، طرحت فيه أهم الأسئلة التي قد تدور في ذهن المتابع..

كنت إذ ذاك مجردَ رسول، “والرُّسُلُ لا تُقْتَل” كما يقال.. أما اليوم فلم يُحَمِّلْنِي أَحَدٌ منهم رسالة، لكنني وجدت الفرصةَ سانحةً للتذكير بقضيتهم، في وقتٍ لا يعلو فيه شِعَارٌ على شعارات “الإنصاف” و”العدل” و”الحوار” و”التهدئة” هذه الأيام…

ولا أنكر أنني وجدت في صدري حَرَجًا من الكتابة عن قومٍ تَحَامَاهُمُ الأولياءُ قبل الأعداء، وأَفْرَدَهُمْ القريب قبل البعيد إِفْرَادَ البعير الْمُعَبَّد!

لكنني ذَكَرْتُ أنّ المصيبةَ ليست في وقوع الظلم، بل في صمت مَن يستطيع المساهمةَ في رفعه، أو لَفْتَ الأنظار إليه، وتذكيرَ الجهات المعنية بأن العدالة إذا لم تتحقق لجميع الأطراف فهي “عدالة عرجاء”!

لا يتفق جميعُ السجناء السلفيين على مبدأ الحوار مع السلطة، لكن يطالب به منهم 23 سجينا من أصل 33، ويُفَسِّرُ “أرباب الحوار” ذلك بأن السجناء السلفيين ليسوا تنظيما ولا جماعة، فلكل منهم خلفيته، وقناعته، وأسباب سجنه، ولا يجمعهم ملف واحد، وبعضهم لم يسبق له التَّعَرُّفَ على بعض إلا في السجن، إلا أنّ أغلبهم متفقون على القطيعة مع الماضي، ومبدأ الحوار مع السلطة، وإصلاح المسار والذات.

ورغم الحراك الحقوقي العريض، الذي طالت “بركاتُه”، البشرَ والشَّجَر والبَرَّ والبحر، في السنوات الأخيرة، إلا أن الـ 23 سجينا المذكورين يشعرون أنه “لا بواكي لهم”!

فقد مضى أكثرُ من عِقْدٍ من الزمن على أكثرهم خلف قضبان السجن، لا يُذَكِّر بقضيتهم إلا تلك الوقفاتُ التي ينظمها الأهالي بين الحين والآخر.

وفي الحوار الذي أجريتُه معهم في سبتمبر 2020 أكدوا أنهم باتوا يؤمنون، أكثر من أي وقت مضى، بضرورة التعايش السلمي بينهم وجميع مكونات المجتمع، وفقا لرؤية شمولية اتضحت لهم، تضع مصالحَ البلد واستقرارَه فوق كل القناعات، وترى أن التعايشَ السلمي، وقبول التعددية السياسية والفكرية ضرورةٌ تقتضيها المصلحة والوجود البشري على هذه الأرض، وأنه لا يشكل عائقا أمام الإصلاح.

يشكو السجناء قسوة الأحكام الصادرة بحقهم، وطول المكث خلف القضبان، ويستغربون حرمانهم التام من أي عفو رئاسي، رغم أن غيرهم يرتكب الجرائمَ العِظام مع سبق الإصرار والترصد، ثم يُطلق سراحُه ويُكْرَم مثواه، ويستفيد من كل فرصة قضائية، وهو لم يعلن توبة ولا ندما، وليس هو بالمتأول في أفعاله.

ويضيفون في مرارة: رغم اعترافنا بالأخطاء السالفة لم نستفد من أي عفو، ولا حرية مشروطة أو مؤقتة، وتصدر في حقنا أحكام تفوق القسوة وصفا.

أما كيف اقتنع السلفيون بمبدإ الحوار؟ فقد حصل ذلك – كما يقولون – بعد أن علموا خطأَ العنف، ووجدوا أنهم وضعوا الشدة في غير موضعها، ولِمَا رأوا من تجارب القرون السالفة، وأعظمها تجربة الرعيل الأول من المسلمين، حيث كانت جُلُّ الحلول الناجعة والناجحة تأتي عن طريق الحوار والإقناع.

أما كيف اقتنعوا أن الموقف الذي اتخذوه من السلطة كان خاطئا، فبالنظر إلى مآلات كل الجماعات التي انتهجت العنف والشدة منهجا، والإسلامُ جاء لحفظ النفس والمال والعِرْض والدين والعقل، والواقع أن أيا منها لم يحفظ ذلك، بل زاد ضياعها في العراق وسوريا مثلا.

وقد وجد السجناء الفرصة لقراءة كتب أهل العلم في الموضوعات التي أُتُوا من قِبَلِهَا، كالتكفير والخروج على الحاكم وغيرها من المواضيع، كما تابعوا الندوات التي أقيمت من طرف مفكرين وعلماء حول ترشيد الشباب وتحصينه.

حَمَلْتُ إليهم مخاوف الناس من أن بعض السلفيين التحق في الماضي، فور العفو عنه، بالجماعات المقاتلة في شمال مالي، وسألتهم عن الضمانات التي يمكن أن تمنع تكرار هذا الأمر.

فأجابوا: ما ذكرتَه عن رجوع البعض إلى الجماعات المقاتلة، ممن شاركوا في الحوار الماضي، يتسم بعدم الدقة؛ إذ لا نعلم رجوعَ أحد من هؤلاء إلا واحدا، والحقيقة أنه أُخْرِج تحت عَبَاءَةِ الحوار بوساطةٍ من جهة ما، وقد كان يكتب في الصحف يومها أنه لا زال متمسكا بقتال النظام وتكفيره، وقد كرر نفس الشيء أثناء المحاكمة، ولم يكن ممن استقبل العلماءَ الذين جاؤوا من أجل الحوار، وكل ما نعلمه أن الذين خرجوا في الحوار الماضي، وهم مقتنعون به مشاركون فيه، لا زالوا في البلد، وقد كانت مشاركتهم في الحوار الماضي عن قناعة راسخة، ولم يلتحق أي منهم بجماعة على حد علمنا.

وأما ما ضماناتُ عدم عَوْدِنا فهي عهودنا التي تلزمنا شرعا ومروءة، ورُؤْيَتُنَا الغدرَ سُبَّةً، وأن لكل منا قبيلةً وحاضنة اجتماعية مستعدة لضمانه، وبعد ذلك نحن ملتزمون بالضمانات التي ترى الدولة أنها تكفل مستقبل الحوار.

وقد حرص السجناء – في حديثهم معي – على تصحيح ما سموه بـ”المعلومة المتداولة على نطاق واسع”، التي تتهمهم بتكفير المجتمع، مؤكدين أنها غيرُ صحيحة، بل هم بعيدون من ذلك كل البعد قديما وحديثا، وإنما كانت قضيتهم موقفا شرعيا مغلوطا، تبنوه من النظام واتضح لهم خلافه.

يتطلع القوم بلهفة إلى اليوم الذي ينقلبون فيه إلى أُسَرٍ فقيرة، تعاني البعد والحرمان من عائلها الأساسي..

وإلى يومٍ يعودون فيه إلى “أفراخ زُغْب الحواصل لا ماء ولا شجر”، بلغوا سِنَّ الدراسة، وهم اليوم عُرْضَةٌ للضياع بسبب غياب الآباء..

وإلى صباح يرجعون فيه إلى آباء وأمهات بلغوا من العمر مدى يحتاجون معه لرعاية أبنائهم السجناء..

وهم اليوم يرسلون رسالة إلى السلطة والمجتمع أَنْ: أطلقوا سراحنا.. فقد تاب مِمَّا تعلمون يَزِيدُ!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى