مقالات

محمد الشيخ بن الديده.. رائد الوقف الخيري في موريتانيا

المعلوم المرابط

إحاطة – (خاص)

خَصَّ الأستاذ والباحث الألمعي المعلوم المرابط موقع “إحاطة” بمقال عن المرحوم  محمد الشيخ بن الديده، أحد أبرز رواد الوقف الخيري في الدولة الموريتانية الحديثة.  

مَثَّلَ الوقف على مدى حقب التاريخ الإسلامي ركيزة أساسية لإعمار الأرض، ورافدا مهما لدعم المؤسسات الدينية والمراكز العلمية من مساجد ومدارس وغيرها، فكان مجالا واسعا لتنافس أهل الخير سلاطين وأمراء وعلماء، ممن شيدوا في مختلف البلدان الإسلامية مؤسسات نموذجية ما يزال أجرها ساريا لهم ولن يزال.

وقد عرفت البلاد الشنقيطية صورا متعددة للوقف الإسلامي، خصوصا المدن القديمة، وإن لم يكن بتلك الوفرة وذلك النضج الذي كان عليه في عواصم الدول الإسلامية الكبرى، فتمثلت أوقافهم في إعانة طلاب العلم وشيوخهم وذوي الحاجات وعمار بيوت الله تعالى بما تتيحه البيئة الصحراوية من وسائل.

ومع بزوغ نجم الدولة الحديثة شهد الوطن تطورا في هذا المجال، على مستوى العمل الفردي والعمل الجماعي، ومن رجالات الفضل الذين خدموا فيه بمالهم ووقتهم وجاههم، الوالد محمد الشيخ بن الديده، الذي ولد وعاش طفولته الأولى في مدينة شنقيط بولاية آدرار، ودرس ومارس التجارة في شبابه بمدينة أطار، وهما مدينتان عرفتا بوقف النخيل والعقار والنفقة على طلاب العلم.

ويعتبر الوالد محمد الشيخ من رواد العمل الخيري في هذا الميدان، فهو شخصية من أبرز رجالات لجنة المساجد والمحاظر في موريتانيا، التي قامت وما تزال تقوم بجهود جبارة في خدمة المساجد والمحاظر إنشاء ورعاية.

شهادة تكريم من اتحاد أرباب العمل الموريتانيين
شهادة تكريم من اتحاد أرباب العمل الموريتانيين

وقد عمل الوالد محمد الشيخ في هذا الإطار مع اللجنة المذكورة، موازاة مع أعماله الخاصة فيه بجهوده الذاتية وأمواله الخاصة، يبتغي بذلك وجه الله تعالى والدار الآخرة، وسنقتصر على ذكر نماذج من كل ذلك، فالإحاطة به متعذرة، لما كان يحيطه هو به من الستر وعدم الإفشاء، هروبا من التسميع والرياء.

أولا: جهوده مع اللجنة:

لجنة المساجد والمحاظر في موريتانيا من أقدم المؤسسات الوقفية الخيرية في ظل الدولة الموريتانية الحديثة، نشأت بجهود رجال أعمال وطنيين، عملوا على تشييد المساجد والمحاظر وترميم الموجود منها في العاصمة وخارجها، والنفقة على تجهيزها بما تحتاج من مستلزمات إقامة الصلوات وتدريس الناس وأجور القائمين عليها، سخروا لذلك صفايا أموالهم وصرفوا فيه أوقاتهم وجهودهم. تم ترخيصها باسمها الحالي بالقرار رقم 196، الصادر عن وزير العدل والتوجيه بتاريخ 20 نوفمبر 1984م. وكان الوالد محمد الشيخ من أوائل من عملوا على فكرة هذا المشروع، مع إخوة أفاضل رحم الله من توفي منهم وبارك في عقبه، وأطال عمر الباقين منهم وأقر أعينهم في ما رزقهم.

وقد قدمت اللجنة في هذا الباب جهودا جبارة، منذ نشأتها حتى يومنا هذا، ساهمت بها في المحافظة على الإرث الثقافي الوطني ونشر الثقافة الإسلامية الوسطية، نكتفي هنا بذكر نماذج منها.

معهد ابن عباس: وهو مؤسسة علمية عريقة، خرجت وما تزال تخرج أفواج طلبة المحاظر، الذين يلتحقون بها بعد حفظهم لكتاب الله تعالى، فتوفر لهم دراسة متميزة لمختلف المتون المحظرية، وتزودهم من متطلبات العلوم المعاصرة وآلات البحث بما يحتاجون.

ـ بناء عشرات المساجد والمحاظر ومتعلقاتهما: وذلك في مختلف مقاطعات ولايات انواكشوط، ومختلف مدن وقرى مثلث الأمل، وغيرهما من مناطق الوطن العزيز. قاموا بذلك كله في تواضع وخوف من إعلانه، وقوموه ببناء الأسواق والدكاكين التي يعود ريعها على عمارة تلك المراكز والمؤسسات والنفقة عليها، بما يضمن استمراريتها واستقلاليتها.

ثانيا: جهوده الخاصة:

بنى الوالد محمد الشيخ من ماله الخاص منفردا ـ حسب علمي ـ خمسة مساجد، اثنان منها بمدينة انواكشوط، وواحد بمدينة العيون، وآخر بالحوض الشرقي، وخامس بوادي سكليل بولاية آدرار.

إحدى وصاياه بإتمام بناء مسجد في توجنين
إحدى وصاياه بإتمام بناء مسجد في توجنين

وبنى بإزاء كل من المسجدين الموجودين بانواكشوط محاظر قرآنية وعلمية، ظل ينفق عليها من ماله حتى توفاه الله تعالى، وبنى لتلك المحاظر ومساجدها أسواقا ومنازل أوقفها عليها، ليظل ريعها صدقة جارية، تعين على توفير المستلزمات، وتضمن الاستمرارية.

هذا فضلا عن أوقاف أخرى لأسواق ومنازل ومكتبات، في أوجه متعددة من أصناف الخير.

إقرار بخطه بتوقيف مسجد ودارين
إقرار بخطه بتوقيف مسجد ودارين

يقول أحد الشعراء في الإشادة بجهوده في هذا المجال:

هذي بيوت الله تشهد أنه ** قد كان من عمارها وبناتها

وذه المحاظر من نداه مشادة ** يتلى كتاب الله في جنباتها

ويؤمها الطلاب أسراب القطا ** يجنون رطب العلم من روضاتها

يتفيؤون ظلال دوح مشرق ** بسنا الهدى والذكر في حلقاتها

ولم يصل الوالد محمد الشيخ خبر بناء مسجد أو محظرة إلا وساهم فيه وفي نفقاته المستمرة، وفي إرشيفه الخاص من مراسلات أصحاب هذه المشاريع الكثير والكثير، مما قد ظل يخفيه عن أقرب المقربين منه، وقد ظلت بعض تلك النفقات الشهرية جارية من ماله الخاص حتى وفاته ليلة الجمعة الماضية بالمدينة المنورة زادها الله تشريفا، ودفنه ببقيع الغرقد، تتويجا لمسيرته الخيرية بهذه الخاتمة الحسنة.

وقد طفحت بذلك شهادات أهل الفضل له، من أئمة وشعراء، يقول أحدهم رحمة الله عليه، بتاريخ 22/ 11/ 1985م:

محمد الشيخ المفضل السني ** خير الذي قصدت في ذا الزمن

على مساعدة مسجد سني ** كاد الجفاف عنه أن يجلسني

بما استطاع رمت أن يتحفني ** به لجامع كثير المؤن

فيا لها هدية من محسن ** لمسجد لربنا محسَّن

مال الكريم كله قد اقتني ** لصالح الدارين بالعكس الدني

من ذا الذي يقرض قرضا للغني ** كمثل قرض الحسنيّ المحْسِن

أعطى لبيت الله ما به بني ** من أدوات للبنا تعجبني…

وعلاقة الوالد محمد الشيخ ببناء المساجد وإعمارها والسعي في مصالحها وطيدة، ألفها أينما كان وحيثما حل، ومن ذلك كونه ظل عضوا فاعلا في لجنة تسيير المسجد السعودي منذ تأسيسه، وكان قد جعل اسمه ضمنها الوزير يومئذ السيد عبد العزيز بن الشيخ محمد المامي حين دشن المسجد.

وقد مثّل رحمه الله تعالى خلال مسيرته الحياتية رجل الأعمال المسلم الملتزم، فكان يسعى لنيل كل ما فيه خدمة للإسلام والمسلمين، ومن ذلك أنه كان من أوائل من سعوا لافتتاح دار نشر موريتانية تتدارك التراث المحلي والإسلامي بالتحرير والتحقيق، وفي سبيل ذلك كان صاحب أكبر سهم في شركة الكتب الإسلامية إبان تأسيسها، بسهم يمثل نسبة عشرة في المائة، لا يفوقه إلا سهم بنك البركة يومها. ومن ذلك أنه أيام ظهور الصحفية المقتدرة خديجة بن قنة متحجبة على شاشة قناة الجزيرة، أعجبه التزامها بالحجاب وبعث إليها مع إحدى بناته هدية من الملاحف الموريتانية، دعما لها على هذا الموقف النبيل. وكذلك كانت مواقفه في كل ما يرفع الإسلام والمسلمين.

ولولا مخافة الملل والسأم لأطلقنا للقلم العنان، لكن المقصود التنبيه على القدوة الحسنة في هذه المسيرة الخيرية الحافلة، فنكتفي بالمثال على ذلك وهو لا يقتضي الحصر، حتى تشرئب أعناق شبابنا وشيوخنا لسلوك هذه الجادة الوقفية، فيقتدوا بهدى أهل الفضل والنبل في فتح حسابات الصدقة الجارية، ويمثلوا التعاليم الإسلامية السمحة، من إحسان إلى الناس ونشر للخير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى