مقالات

في مهنة المتاعب (22)

محمدُّ سالم ولد جدّ

“سيطول الطريق بالضعف لو عرجت إلى طريق السيارات. سر في هذا الاتجاه”.
قالها من شيعني نيابة عن الشيخ محمد الحسن بن أحمد الخديم وهو يودعني عند خروجي من قرية التيسير. وقد حرصت على تمثل أصابعه وهو يشير إلى الجهة الصحيحة لتمر الرحلة بسلام.
كان الباقي من النهار ساعة فقط، علي خلالها أن أقطع سبعة كيلو مترات على الأقل، في أرض متشابهة الأعلام لم أسلكها من قبل. ولو تأخرتُ في سباقي مع الشمس لكانت النتيجة تيها في فلاة تفوق أفاعيها كلاب الكبات، أو تقاربها.
كانت قدماي قد مجلتا (دوحست) بتأثير التراب الساخن الذي لفحني خلال الجزء الثاني من رحلتي لهذا اليوم، وكان الرمل المندس في البطان الداخلي لنعليّ يضيق الخناق عليهما مضيفا ألما جديدا.
ومن خلال العرق الماطر على وجنتيّ كأنما يحاول تهدئة الغليان النابض في أنفاسي وشراييني كنت أرمق الشمس كل بضع دقائق كما يرمق المدين المشنقة. كانت تتزحلق بسرعة جنونية، وكنت أركض أيضا بسرعة جنونية. وعندما أخلدتْ إلى الأرض لمحتُ أثر إنسان حديث العهد حداني إلى أن أرجع البصر كرتين لأتبين تحت كلكل الظلام الهاجم بياض منزل شعرت لرؤيته بما أشعر به عادة إذا رأيت هلال شوال بعد صيام رمضان.
استطعت أن أتبين من ملامح القرية أهمها؛ النخل باسقات لها طلع نضيد. ولم يحل إرهاقي دون مقارنة الحقيقة بالخيال فيما دأب الشعراء عليه من وصف الهوادج بالنخل المتمائس، وأعتقد أنهم أجادوا إلى حد كبير.
كانت ليلة امتزج فيها إرهاق اليوم الماضي بإمتاع مذاكرة نخبة من الأدباء، وكان الجو طلقا، والضفادع “تغني” على طريقتها، أو تتناشد الأشعار.. من يدري.
في الصباح نهضت لما جئت من أجله فأنجزت تحقيقا عن القرية العريقة (تگند القديمة) وبعد المغرب أجريت مقابلة مع شيخ المحظرة الإمام بن عمر حفظه الله (الوجه المعروف الآن على قناة المحظرة) الذي كان يومها أستاذا شابا مضى على اكتتابه حوالي ثلاث سنوات، وبعد فترة قصيرة تم تفريغة لمحظرته ومحراب جامع قريته المحروسة.
وما أنس لا أنس أن تگند كانت أول واحة تطؤها قدماي.
(أواخر أغسطس 1992).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى