مقالات

في الذكرى الأولى لوفاة بدن ولد عابدين 

محمد ولد محمذن فال*

مرت قبل أيام قليلة الذكرى الأولى لوفاة المرحوم المناضل بدن ولد عابدين، وهي مناسبة لإعادة نشر المقال التأبيني الذي كتبته عنه أيام وفاته.

لا تلعب السن دائما دورا في حياة الرجال، بقدر ما تلعبه البيئة والتنشئة والاستعداد الفطري.

شارك سَمُرَةَ بن جندب ورافع بن خديج – رضي الله عنهما وأرضاهما – في غزوة أحد ولما يتجاوزا السادسة عشر من العمر.

وأَمَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد – رضي الله عنه وأرضاه – على جيش الشام، وفيه كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وعمره ثمانية عشر، وقال لهم عليه الصلاة والسلام: «استوصوا به خيرا إنه من خياركم» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تَصَدَّرَ المرحوم بدن ولد عابدين – على صغر سنه – جميع التوجهات الثورية المحلية التي انتسب إليها، سواء في ذلك القوميون العرب أو الحركة الوطنية الديمقراطية، التي هو أحد مؤسسيها ومحركيها البارزين، سواء على مستوى التنظير والتفكير أو التنظيم والنشر والإعلام.

ورغم أنه كان أمينَ سر هذه الحركة، فقد كان إلى جانب ذلك رجل مهماتها الصعبة على مستوى الوطن، أو ما يسميه هو “المهام الخاصة”، الشيء الذي مكنه بالإضافة إلى التأكد من أداء المهمة على أحسن حال، من الاطلاع كذلك على أحوال البلد وأحوال المناضلين والعقبات التي تعترضهم، ومن ثَمَّ مَدِّهِمْ بالإرشاد والتوجيه والتأطير، ولعله في هذا يستلهم عن قصد أو دون قصد بعض رِحْلَاتِ المناضلين في أمريكا الجنوبية، فأحوال النضال تتشابه وتتقاطع، وإن اختلفت التوجهات والخلفيات والمرجعيات.

لماذا الحركة الوطنية الديمقراطية؟

أحداث عالمية:

شهدت نهاية العام 1965 وبداية العام 1966 أحداثا كبرى أثرت في العالم وكان لها ما بعدها:

– مؤتمر القارات الثلاث 1966 في كوبا لخلق شبكة التضامن الثوري بين شعوب العالم الثالث.

كان الثائر الاشتراكي العالمي المهدي بن بركه نائب رئيس مؤتمر إفريقيا آسيا، المقيم في الجزائر يومها، هو من كلف بتنسيقه والإشراف عليه وصياغة أفكاره.

يقول في أحد مؤتمراته الصحفية: “لا تنتمي حركة القارات الثلاث إلى المسار السوفياتي، كما أنها لا تدين بالولاء للماوية.. إنها إطلاق دينامية مستقلة”.

جاء هذا المؤتمر نتيجة توصية من المؤتمر الرابع لمنظمة إفريقيا وآسيا، المنعقد بغانا في مايو 1965، والقاضية بضم أمريكا اللاتينية تلبية لنداء كاسترو 1962: “على الشعوب أن تتحرك”، إثر طرد كوبا من منظمة الدول الأمريكية بسبب أحداث خليج الخنازير.

لكن الإمبريالية العالمية كانت لبن بركه ولزملائه في التوجه بالمرصاد، فقبل نهاية العام 1965: أطاح انقلاب عسكري بالرئيس بن بيلا، وأسقط آخر أحمد سوكارنو إندونيسيا، وحَصَدَتْ سلسلةُ اغتيالاتٍ رؤوسَ: علي منصور رئيس وزراء إيران، وبن بركه نفسه، ومالكوم إكس في أمريكا، وأرنستو مولينا في اگواتيمالا، ومانويل دولغادو في البرتغال…

وتوالت بعد ذلك تصفية جميع رموز هذا التوجه، ففي فبراير 1966 وقع انقلاب على گوامي نگروما في غانا، وفي أكتوبر1967 قتل اتشي غيفارا…

– الثورة الثقافية في الصين..

– تجمع الثوريين الاشتراكيين العالميين في الجزائر وخصوصا الأفارقة: المهدي بن بركة (المغرب)، أميكرال كبرال (الرأس الأخضر)، قادة النضال في بيساو والموزمبيق وأنغولا برعاية الرئيس أحمد بن بله، وكذلك مالكوم إكس وغيفارا من أمريكا… وما كان لهذا الحدث من زخم.

– الحوار العالمي لإعداد وصياغة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يقول في ديباجته: “لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي، وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”.

أحداث داخلية:

– تزايد الوعي بضرورة الاستقلال الاقتصادي والثقافي؛

– تزايد الوعي بالحقوق لدى عمال شركة المناجم؛

– تباعد الطرح الفكري والنظرة للهم الوطني بين “المستعربين والمتفرنسين” – إن صح التعبير- وخصوصا لدى نقابات التعليم، الشيء الذي نتجت عنه أحداث 66 البغيضة.

هذه الأحداث شكلت صدمة لدى المتعاطين مع الهم الوطني، وكانت السبب في وقفة تأمل ونظرة للوطن، تبنى عليها المفاصلة مع الماضي، والدراسة الواقعية للحاضر، والاستشراف الواعي للمستقبل: نواة الحركة الوطنية الديمقراطية أولا وحزب الكادحين لاحقا.

كانت جريدة الحرية – إحدى نشريات القوميين العرب – الصادرة في لبنان من بين مصادر القراءة الأساسية المشكلة لتوجهات وأفكار المتأثرين بهذا التيار في البلد، وخصوصا كتابات المفكر اللبناني محسن إبراهيم، مؤلف كتب: “إسرائيل: فكرة، حركة، دولة” (1958). وكتاب: “التحرر القومي والنهج الاشتراكي” (1963).

كان لتحليلات هذه النشرية ونشاط الاشتراكية العالمية، برموزها في إفريقيا: بن بركه، إسماعيل توري، وفي أمريكا: غيفارا، مالكوم إكس، وفي آسيا: أحمد سوكارنو إندونيسيا، علي منصور إيران، والخطب النارية للرئيسين أحمد سيكو توري وفيدل كاسترو الذي يقول:  “إن الأفكار الاشتراكية هي الأفكار الثورية في حقبتنا التاريخية الراهنة” = دورٌ مهم في تشكيل وعي جديد لدى كوكبة من الشباب، تنطلق في مبادئها الفكرية وتصورها للمستقبل من منهجية واعية للواقع الوطني، باعتبارها حالة خاصة، لها ما يميزها عن محيطها الجهوي والقاري، وحتى امتداداتها اللغوية بصفة أعم، وبالتالي مستوعبة للجميع ومركزة على وحدة المنطلق.

كان من بين هؤلاء الشباب وهو أصغرهم سنا – وسيكون محور الأحداث فيما بعد – بدن ولد عابدين.

يقول المرحوم بدن: “كانت الساحة في المشرق العربي حبلى بمراجعات فكرية عميقة تطفو على السطح، تعيش آثار العدوان على الدول العربية، ونكسة حزيران 1967 وما تلاها من خلافات في الاتجاه القومي العربي، وكنا حينها أقرب إلى تيار يقوده الفلسطينيون من قادة التنظيم، توزع دوريةُ “الحرية” الصادرة في بيروت أفكارَه الأساسية على مناصري التيار في مختلف بقاع العالم.

هذه المراجعات هي التي حرر الحكيم “جورج حبش”، وعرفت بـ”وثيقة تموز”، ووزعتها نشرية “الثورة”، التي كانت تصل بانتظام للمرحوم سميدع، حسب الوزير محمد فال بلال، ومعلوم ما بين المرحومين سميدع وبدن من صلة.

تتالي الأحداث المتسارع: أحداث 66، نكسة 67، وانكشاف صوت العرب ومهرجها أحمد سعيد، أحداث الزويرات 68، جعل الحركة الوطنية تعلن خطها النضالي الجديد في مؤتمر “توكومادي”، الذي يعتبر إعلانَها الرسمي عن نفسها، والمفاصلة بينها وبين الحركة الأم “القوميون العرب”.

هذا الخط الذي غَيَّرَ وجه التاريخ في البلد، وجسد الوحدة الوطنية قناعة وتطبيقا، ولا زالت بصمته تراوح مكانها، وأفرادُه – دون إطراء – محل شَدِّ ولَفْتِ أنظار مجمل رواد دائرة البناء الوطني.

تواضع الأخباريون على أن العرب عدوا المنجبات من النساء، واعتبروهن من فاق أبناؤُهن أقرانَهم في الأخلاق والصفات الحميدة؛ من كرم وشجاعة وإباء ومروءة، فعدوا في الجاهلية:  فاطمة بنت الخرشب الأنمارية: أم الربيع بن زياد العبسي؛ ماوية بنت عبد مناة التميمية: أم زرارة بن عدس التميمي؛ حبيبة بنت رياح الغنوية: أم جعفر بن كلاب العامري.

وعدوا في الإسلام: لبابة بنت الحارث الهلالية: أم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛

وليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أم الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

وإذا كان لنا أن نذكر منجبة في البلد، فهي المرأة الصالحة المرحومة: ميمونة بنت عبيد، والدة المرحوم بدن ولد عابدين.

وإذا كان لنا أن ندرس شخصية المرحوم بدن من جميع النواحي والأبعاد، فيكفينا الرجوع إلى الخبر المتواتر عن الشاعر لمرابط بن دياه عن الشاعر الرمز وعالم الاجتماع أحمدو بن عبد القادر، قال: سأل أحدهم ميمونة عن ابنها بدن فقالت: ذهب – في حفظ الله – إلى مصر، معه رفقة قيل إن من بينهم المختار بن داداه.

رحم الله ميمونة ورحم بَدّن وجزاهما عن البلاد خيرا، وبارك في عقبهما ومد في أعمارهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه آمين.

*باحث موريتاني، مقيم في أوروبا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى