مقالات

عيديّة بأغْنيّة.. حول “الكرص”

سيدي صالح ولد افاه

قبل سنة وفي لحظات غير مفهومة كتبت هذين البيتين وأرسلتهما للأستاذ ابهاه بن أحمد بن يوسف :
وفي نغَمات الكرص سحر وخمرة وفيها صدى التاريخ يكْتبُه الوَتْرُ
وأُبَّهَةُ الأمْلاك يُلفى بريقها على لاحب الأمجاد جلَّلَهُ الفخْرُ

فكتب الأستاذ ابهاه : (بجّلني أستاذُنا سيد صالح افاه بهذيْن البيتيْن الذيْن أتياه على لساني وذوقي وإطرابي، :
< وفي نغمات الكَرص سحر وخمرة… وفيها صدى التّاريخ يكتبه الوترُ
وأُبّهة الأملاك يُلفى بريقها… على لاحب الأمجاد جلَّلَه الفخرُ >.
ولقد شرّف نفسَه وشرّفني أن قال على لساني في الكرص شعرا.. ولئن كان الأستاذ يرِث الكرص عَصبةََ فإنّي أرثه ذوقا، ولن تغلب عَصبةُُ ذوقا..
ثُمّ إنّ قوله : < جَلَّلَه > لفظة بالغة، ليس لأنّها فصيحة ودالّة تمامَ الدِّلالة على مدلول، بل لأنّها مُعمَلة في اللّهجة الحسّانيّة بالمعنى ذاته.) انتهى.

والحق أني لست ذا أذن بيضاء، وإن كانت مستقرة في “مَطرَح” بين “المنزلتين”، إلا أنني منذ صغري كنت أحس في داخلي بحالات لا أستطيع تفسيرها عندما أستمع إلى موضعين :
-الكرص
-ولگَّتري مع جهلي التام بمكانهما من “أژوان” إلا أنني حين كبرت وتأملت أدركت أنهما ليسا نغَما موسيقيّا يطرب لرنتهما اللاهون، ولكنهما تعبيران عن حضارة عظيمة، وعن أبّهة أهلِهما الذِين عُزِفا لهم، فلگَّتري كان نشيدا لأولاد العالية الذين كانوا من أعظم المجتمعات أبّهة وهيبة مظهر وفخامة قيم…
أما (الكرص) فهو (نشيد السلطنة الكبرى) ، جادت بيه قريحة أبي الإبداع الفنّي اعلي انّْبيط بن حيبللّ بن آگمتّار في لحظات فتح جماليّ استنطق فيه مظاهر الجمال في الطبيعة في تلك الليلة المقمرة التي كان فيها السلطان محمد آمّاش بن اعمر بن اعلي في رحلة صيد (التكَيمير) وهو من أساليب الملوك قديما التي انتهجها سلاطين أولاد امبارك ترفُّها، فقد انتزع ظاهرة الإبداع الفنيّ اعلي انّبيط هذا الكرص من جماليات الطبيعة من حوله كما يظهر ذلك جليا في مكوناته وفي تسميته، ومن العجيب أنها (ردّات ) جمعت بين الفخامة الباعثة الفخرَ في النفوس، وبين الحزن “الباكي” الباعث على النشيد والنشيج، فلكأنك تشعر وأنت تسمعه من “أوتار متقنة” بنُواح داخليّ تنوح به هذه الأوتار، ولعل كبار المبدعين وجدوا هذا الإحساس فاتخذوا من شعر الرثاء والبكاء على الأطلال شواهد لرداته، فها هو خاتمة المبدعين الوالد سيد احمد بن أحمد زيدان “انداده” في احد أشرطته “يُوكِّرُ” في نغمة اليزيد التي هي أصل الكرص، وحين يرنُّ الوتر بحزن عميق يشدو في تأثر ملحوظ لا تخطئه أذن السامع منشدا :
لعمرك ما الرزية فقدُ مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حرّ يموت بموته خلق كثير.
وإني لأتخيله وأنا أسمعه وكأنه يقف على أطلال مكانية في (بنعوم وبوصطيلة و غيرها) مما كانت مسرحا لتلك الأبهة، وقد استحالت إلى أطلال زمنية بقيت معالمها مرسومة في الأذهان شاهدة على أن حضارة خدّتها على أديم الأرض سنابك الجياد الصافنات، وكتبتها في صفائح الزمن الخالي والحالي أوتار شاديات، فانحفرت في أعماق الذاكرة وأبت إلا أن تظل مترقية في معارج الخلود رغم مكايد الزمن الكؤود..

والله وارث الأرض ومن عليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى