تحقيقات

الخيمة.. وقفات مع المبنى والمعنى*

محمدُّ سالم ابن جدُّ**

هي، مع الزي والشاي واللهجة، أهم ملامح المجتمع الناطق بالحسانية في موريتانيا وما يليها من بلدان الجوار، أو “تراب البيضان” بتعريف آخر. إنها تجسيد لمواءمة الحاجة والاختراع، حمد أهلها صحبتها وألِفوها فجالدوا في سبيل التمسك بها، وآثروها على القصور المنيفة، حتى إنهم (حكاما ومحكومين) ينصبونها لاستقبال الضيوف المكرمين، وحتى إنك تراها فوق الدور المشيدة وفي أفنيتها، وتملأ الشوارع والساحات في المواسم الانتخابية، وحتى إنهم سموا واحدة من أرقى بنايات قلب انواكشوط بعمارة الخيمة.

بها يعبر عن معان مهمة في حياة ساكنيها، حتى بعدما قَلَّت الخيم وتغيرت المساكن. بها تختصر الحالة الاجتماعية؛ فنفيها عن المرء نفي لزواجه، وإثباتها له إثبات له. والخيمة الكبيرة – أو القدامية- كناية عن المجد والصيت، والخيمة الأسرة، أو بيت الأبوين ومن في معناهما، عند المتكلم أو المخاطَب، والخيام الأهل، والحضور (ضد السفر) وأهل الخيام قبيلة المرء أو فخذه، وحُبُّ الخيام قصور الهمة وضعف التحمل، وزر لخيام وأفام لخيام وارگاب لخيام واسهاوي لخيام تعبيرات عن القرب بمعان متقاربة.

ومن أمثالهم ذات العلاقة (من للتبعيض):

– “أخبار الخلوه ما تنجاب اللخيام” (ما جرى في الخلاء لا ينقل إلى الحي) يحثون به على إنهاء الخلاف وكتمان أسبابه.

– رجالتنا افلخيام هومه رجالتنا في الغيبه (رجالنا في الحضر هم رجالنا في السفر) يضرب في قياس المجهول من حال الشخص على المعلوم.

– الكذب ما يبني لخيام. (ما نافية).

-أيام أيام يگرابُ لخيام. (أياما أياما يقترب الأهل) يضرب في الحث على الصبر وتوقع ثماره. وأصله في السفر الطويل.

– الِّ أخوتُ فالغَزِّي ما يبتط افلخيام (من كانت له نصرة – ولو غائبة- هيب جانبه).

.. إلخ.

بل إن من القوم من تجاوز الحياة إلى الممات فسمى القبر “خيمة الحق”. وفي أساطيرهم حضور طاغ للخيمة، كما كان في ألعاب بناتهم قبل أن تغرقهن مصانع باربي وأخواتها – مدعومة بالتلفزيون- في بيوت البلاستيك ودماه ذوات الملامح الغريبة والأزياء الدخيلة.

بعونه تعالى أعتزم رصد مسار الخيمة؛ اعتمادا على الله سبحانه، ثم على ما عايشته؛ ففيها ولدت، وتحتها نشأت، وما أحب أن لي بها ناطحات السحاب؛ بل إنني الآن أكتب وأنا في منزل بالعاصمة تعلوه خيمة قماش قد تغني عنه لكنه لا يغني عنها.

 

المنطلق

طبعت البيئة والحياة الخيمة فجاءت وفق مقاييسهما، فكنت أجيل عيني فيها فلا أرى في ماهيتها وأثاثها وآنيتها وما تعلق بها دخيلا ولا مستوردا من خارج محيطها الضيق! ثم إن من السهل أن يرفع سمكها أو يخفض، أو يحوّل بابها، أو يزاد فراغه أو ينقص، أو تجعل بابا كلها، أو لا يترك لها باب مفتوح؛ كل ذلك حسب ما تمليه الحاجة الناشئة عن التقلبات الجوية المختلفة، وما يقتضيه العرف الاجتماعي (كمن يجاور أصهاره). وأهلها يَسْتَخِفُّونها يوم ظعنهم ويوم إقامتهم؛ فهي قَصْرٌ متنقل يسهل تشييده ليسع الفئام، وتقويضه بحيث يحمله الرُّجَلان، ويلائم ظهور الحمولة أيا كانت.

وما تزال الخيمة تسكن أهلها وإن لم يسكنوها؛ فقد علمتهم المرونة والانفتاح وسرعة التكيف ورفض الخضوع وكسر القيود؛ فكما يدخل أحدهم خيمته ويخرج من حيث شاء يصعب عليه التنازل عن جزء من حريته والخضوع للقيود، ولو كانت لسلامته كإشارات المرور، أو للإنصاف كالطابور. ثم هم يتصورون التاريخ وحياة الأمم انطلاقا منها.

بيد أن ما يسمى هنا خيمة ليس الخيمة اللغوية؛ بل قد يكون الأقرب للفصاحة تسميته خباء أو بيتا (حسب الحجم) فالخيمة مسكن من شجر، لا صوف ولا وبر ولا قماش. ولبعضهم:

مظلة من شعر
ووكنة من حجر
وخيمة من شجر
هذي بيوت العرب.

وقال امرؤ القيس:[1]

تروح من الحي أم تبتكر
أمرخ خيامهم أم عشر
وما ذا عليك بأن تنتظر
أم القلب في إثرهم منحدر.

عبر عن مكانهم بالشجر الذي يتخذون منه خيامهم (المرخ تتارك،[2] والعُشَر تورجه).

وقال الزبيدي في تاج العروس (ممزوجا كلامه بكلام المجد في القاموس): “والخباء بيت صغير من صوف أو شعر، فإذا كان أكبر من الخباء فهو بيت، ثم مظلة إذا كبرت عن البيت، وهي تسمى بيتا أيضا إذا كان ضخما مزوقا”.[3]

على أن الدلالة العمرانية قد تسوِّغ التسمية؛ فالخيمة مسكن قابل للنقل عند الاقتضاء مشعر بعدم طول الثواء؛ ولذا تسمى مساكن الأحبة من لاجئي فلسطين (حتى داخل فلسطين) مخيمات؛ مع أنها مبان ضخمة متعددة الطوابق!! استشعارا للعودة المنشودة إلى الوطن السليب.

 

القبة أولا

كان المسكن التمهيدي قبة من قماش كثيف لا يناسب اللبس يسمى “مَلِكَان” تقام على أعمدة موشاة بالألوان والكي، يتناسب عددها مع مساحة القبة (تسمى البَنْيَة، والغبة بالغين) ولعدم توفر “ملكان” في البادية كان صاحب الشأن يأتي به صحبة المهر الذي كان متنوعا ورومانسيا في تلك الأيام. ولحضورها في الأذهان كان يعبر عن حديث العهد بالزواج بأنه ما زال “بنية”.

في الليالي الأُوَل (سبع أو ثلاث حسب انتفاء السوابق الأهلية أو وجودها) يتأخر نصب القبة حتى يهدأ ما كان يحدث من مناوشات لا تناسب المُقام (بضم الميم) وبعد استتباب الهدوء تقام بعد المغرب وتقوض صباحا، وقد يحكم المطر أو الريح بتقويضها ليلا، وعودة كلٍّ من حيث أتى، وعندها يكون تقويضها من نصيب الرجل، وقد تهب السيدة حماته لنجدته أو تبعث بمن يتولى المهمة ويريحه، من غير ساكنتها الجديدة التي لا يحسن بها نصبها ولا خفضها فتتجنب إعرابها وبناءها.

قبل القبة كانت الفروة؛ وهي قبة من أدم كانت تنصب للضيف ذي المكانة ولحديثي العهد بالتأهل ريثما تنشأ الخيمة، وقد تقام داخل الخيمة في فصل الشتاء طلبا لمزيد الدفء؛ شأنها في هذا شأن القبة القماشية. سمعت عن الفروة ولم أرها في حياتي، ولذا أضرب الذكر عنها صفحا، لأن حديثي خاص بما عاينته.

مما يتصل بأمر القبة أني أواخر عام 1994 زرت كرمسين أول مرة، وأمضيت أياما هناك، فكنت أمر بالنهار من ساحات فارغة بين المنازل فإذا جن الليل رأيتها معمورة بالقباب البيض التي عهدتها تقام لمبيت الأسر حديثة العهد، وكنت أحسبها اختفت وانتهى عهدها.

لم يفاجئني تمسك السكان بالموروث الشعبي فقد رأيت فيهم منه الكثير، وإنما لفت نظري ارتفاع نسبة الزيجات الحديثة فيهم، ولم أدر هل هو انبعاث بعد توقف أم هكذا تسير الحياة هناك.

في إحدى الليالي كنت مع أحد الأصدقاء وحين انصرفت شيعني وفوجئت به يتوقف إلى جنب إحدى تلك القباب مواصلا حديثه إلي! حاولت زحزحته مترا أو مترين فلم أفلح فسلمت بالأمر الواقع ريثما ينتهي الحديث فأخرج من هذا الحرج.

بينما هو يحدثني سعلت شاة داخل القبة! خطوت إلى هذه فمددت يدي ولمستها متبينا فإذا بها مجموعة من أكياس النايلون البيضاء (ازگايب لعصب) خيط بعضها إلى بعض لوقاية الماشية من البعوض الذي كان في ذروة نشاطه.

فَهِمْتُ السبب فزال العجب، وعذرت صاحبي الذي كان أدرى مني حين وقف جنب القبة دون تحرج.

يحيط بالقبة تعقيد ناجم مما درج عليه مجتمع محافظ يعيش بين السطور؛ فلا يحسن بساكنَيْها التوجه إليها مباشرة ولا الإقبال منها مباشرة أيضا، ويشتد الأمر في حق الفتاة، ويستبشع من الفتى إن توجه منها إلى من يحترمه كالأب والأكابر وجماعة المصلى.

وفي منشئي لم تكن تشاد إذا قدم ساكنها من سفر إلا بعد أن يبعث إلى حماته طالبا ذلك، مراعاة لما قد يعرض له من تغير، وتجنبا للحرج في مجتمع يفشو الطلاق بين أفراده.

 

ثم الخيمة

لأن القبة لا تلائم السكن الدائم في جو البدو وأعرافهم تجمع مادة خيمة من القماش (خيمة شراويط) تسهم فيها القرائب والجارات والمعارف بالقماش والعمل؛ باستثناء صاحبتها التي لا يمكن أن تصل بها الوقاحة إلى دخول شيء من أمرها، ولو بكلمة، بل لا تبدي شعورا بوجودها أصلا. وللسبب ذاته لا يحسن بها في الفترة الأولى استعمال ما يهديه الحليل من حلية ومتاع، ومع الوقت تستعمله على استحياء، فإن سئلت عن مصدره أجابت بأنه من عند الله. ويؤثر في هذا عن بعض الظرفاء أن النساء يشركن بعولتهن بالله!

كان النساء يحرصن على تزويق وجه خيمة القماش وباطن سرادقها (أكورار) ويكابدن الكثير من الشق والخياطة في اتجاهات شتى قبل أن تسحب المصانع الصينية البساط من تحتهن بالتزويق الصناعي الجاهز.

تشاد “خيمة بيضاء” لا تختلف في وظيفتها وبنيتها عن خيمة الصوف (خيمة الوبر كما تسمى)[4] إلا بما يمليه حالها؛ فلخيمة الصوف عشرة أطناب (حبال) خمسة شرقا ومثلها غربا (وكل كلامي عما عايشته) في كل زاوية منها (خالفه) واحد، وفي الوسط ثلاثة، بينما يكفي اثنان في وسط خيمة القماش لخفتها النسبية. وإن كانت ذوات الإتقان من النساء يجعلن طبقة من أكياس القش المبسوطة (ازگايب گنب) بين طبقات القماش درءا للمطر وتوخيا لكثافة الظل، فإذا أصابها المطر تشربه القش فتضاعف ثقل الخيمة وصعب رفعها إن سقطت كما قد يحدث.

عند ما يكون للأسرة الجديدة مسكن من قماش تُوَدِّعُ “البَنْيَة” التي قد تكون جزءا من “بياض” الخيمة الجديدة، كما تكون الأعمدة من أثاثها. وللخيمة البيضاء دلالات عند أهل الحصافة، فالضيف يتجنب النزول بها، ويعدل عنها إلى خيمة الصوف، وتسمى “امسيد” وهو التعبير الدارج عن المصلى أيضا (المسجد) ولست أعلم أجاء الاسم من قصر الإقامة بها، أم من نظافتها وقلة آنيتها، لأنهم يسمون الساحة التي لا تنبت في عطن البئر مصلى أيضا.

أثناء فترة “لمسيد” قد يصبح سكانه ثلاثة بمولود جديد، وغالبا ما يكون المقيل فيه بعد ما كان المقام مقتصرا على سواد الليل في القبة.

ولا تعدو خيمة القماش محطة انتظار للخيمة الحقيقية التي يجري العمل فيها بالتعاون بين أمي الطرفين أو من في معنى الأم من جدة أو خالة.. إلخ. تؤازر كلا منهما طائفة من النساء، دأبن على التكاتف فيما ناب كلا منهن.. وبهذا استطعن مغالبة الظروف التي لم تكن بما نراه اليوم من بساطة.

 

نحو الاستقرار

بمجرد تشييد الخيمة البيضاء يبدأ النشاط في المقر النهائي.. خيمة الصوف (خيمة الوبر) استباقا لبلى القماش والحاجة إلى تغييره، وللضأن والإبل الدور الأساسي في هذا البيت المرتقب كما سأبينه بإذن الله.

عند ما يطول صوف الضأن تعد العُدة فتحد السكاكين[5] والمسانُّ وتهيأ أمشاط حديدية ذات مقابض خشبية (وكذلك السكاكين وبعض المسانِّ أيضا) وتفرد رؤوس تكثر أو تقل حسب المستعدين للمهمة (تسمى احْبَاسْ، بهمز وصل) وغالبا ما يكون الجز في حظيرة، ثم في يوم غير عاصف حفاظا على الصوف الذي تروى المأثورات في سبيل حفظه.

يتداعى الرجال والمراهقون ضحى في الغالب إلى “لحباس” ولكل مهمته؛ فمهمة الكبار الجز، بينما يكاد يقتصر عمل المراهقين على المساعدة بالذود وجمع الصوف وإمساك الدابة أثناء العملية التي تبدأ بتنظيف الصوف مما علق به من حسك الْحَرَشُون (يسمونه إنيتي) ويستخدمون لذلك آلة تسمى المسراح، وتسمى بَافْرَيْمَانْ؛ وهو مشط حديدي قصير الأسنان يتخلل الصوف فيزيل تلبده وعوالقه.

يمسك المراهق الشاة واضعا إبهامه في الفراغ الفاصل بين أسنانها وأضراسها (أغَابَه) وعليه أن يرفع أطرافها عند جز مغابنها ليتمكن الجازُّ من إتقان مهمته، وقد يغفل فتترك أضراس الشاة بإصبعه تذكارا مؤلما. وقد يغافل الكبار فيحاول الجز فيؤذي الشاة أو يؤذي نفسه. وقد يجتزئ الجاز عن المراهق – اختيارا أو اضطرارا- بوهق (نشيطه) في محل الإمساك من فم الشاة يشدها به إلى جذع أو غيره. وما أحسن خطوط الجز على أجساد المواشي، ومن المهرة من يسهل تمييز جزه، كخطه الكتابي أو أثره في الأرض.

من الشاء ما يكون في جزته الأولى فيكون أهدأ بالا أثناء الجز، أما ما سبق أن خبر التجربة (التي يبدو أنها سيئة في نفوس الضأن) فبمجرد سماع سن السكاكين يتوتر ويصعب مراسه، ومن أمثالهم “گلب النعجه ال تِنزَزّْ” (قلب النعجة التي تُجَزُّ) يضربونه في الوجل وترقب المخوف.

عند انتهاء المهمة يجمع الحاصل في أوعية مناسبة وتعاد العدة إلى حيث كانت من قبل، بعيدا عن متناول الأطفال. وأهل التجربة والدراية بسلوك المواشي لا يفرجون عن الضأن بعيد الجز؛ بل يبقونها محبوسة مدة تهدأ فيها نفوسها، فقد تطلق مرتاعة متألمة فيكون آخر العهد بها، أو يعثر على بعضها أو كلها بعد مشقة وعناء.

 

إسداء وإلحام

تتألف خيمة الصوف من جزأين: سدى ولحمة؛ فالسدى (يسمونه السِّدْوَه) هو الجزء الظاهري، ولأن المستخدَم فيه صوف الضأن السود عادة تبدو الخيمة سوداء فاحمة، ثم تحمر مع الوقت جراء تعرضها للفح الشمس وسائر العوامل الجوية.

أما اللحمة فهي الجزء الباطني (وينطقونها مفتوحة اللام) وواضح من اسمها أن مهمتها تأليف خيوط السدى، وقد تحل محل الصوف في خيام أهل الإبل ومَن في معناهم فتبدو فاتحة اللون كثيرة الخطوط لتباين ألوان الإبل.

وورد الإسداء والإلحام كثيرا في الشعر؛ كقول أبي تمام:[6]

ولألبسنك كل بيت معلم يسدى ويلحَم بالثناء المعجب.

وقول ابن الرومي[7]:

إذا مادح أسدى وألحم باطلا فمدحك مُسْدًى بالذي فيك مُلْحَم.

وقول امحمد ابن الطلبه رحمه الله: [8]

فبات الهوى يستن بي هيجانه فأسدى بلبي ما تَبَغّى وألحما.

أما في الحسانية فيعبرون عمن يتصرف كما شاء بأنه “إيسَدِّي واينَيَّر” وهو تعبير يجمع بين السدى والنير (ربما نصل إليه). لا عليكم من هذا الاستطراد.

لأن الوبر ينمو على ظهور الإبل دون بطونها، وبحكم خلقتها تعقل يُدِيُّها عند ما يراد جزها وربما “عرنت” الدابة إن كانت فَتِيَّة غير معبدة، وقد تزاد فـ”تشكرف” لتسهيل المهمة.

لا يعدو جز الضأن لعبة أطفال بالمقارنة مع جز الإبل؛ حيث يتطاير اللغام ويتواصل الرغاء.. فترى القوم يتصايحون لإسماع بعضهم بعضا، وقد تتمرغ الدابة فتكون في إعادتها إلى بركتها المطلوبة مشقة، وقد تطلق فتقام ثم يعاد إبراكها وإيثاقها. وربما كان الجاز مهملا فوضع السكين إلى جنب الدابة فتمرغت عليها فجرحتها.

أما المُسِنات والركائب فخطبها أيسر وبال صاحبها أنعم؛ إذ يكفي عقال من أحد الجانبين وإلا فإمساك مشافرها أو أزمتها، فتراها تجز وادعة تجتر دون قلق ولا إقلاق.

يتأنق أهل الإبل فيتركون على السنام خطا مهذبا يسمى “أَشَكُّوط” قد يمسكه الراكب المبتدئ تجنبا للسقوط، ويتجنبون جز ما خلف أسنمة الفصلان تفاديا لما يجره تغير الرائحة في أنوف النوق من نفار (اتزازير) ورفض لأولادها؛ لذا يتركون “ارفاده” يعتنون بها إن تعلق الأمر بالأنثى. وربما جزوها تدريجا خداعا للأمات، في ضرب من استغلال الإنسان لأخيه الحيوان.

 

مراحل الإعداد

حين يراد إعداد الصوف أو الوبر، يخرج من أوعيته على دفعات فيوضع في مأمن مر الريح على فراش خال من الثقوب قد يكون جِلدا أو غيره، وقد يكتفى بمكان صلب، ثم يضرب بعصي رقاق نسبيا معروفة للمهمة، تسمى “لِحْصِي” وواحدتها “احْصَه” وتُتَخَيَّر من عروق الأشجار؛ خصوصا الطلح والقتاد (أيرورا) ويسمى انتقاؤها واستخراجها “اتْرَيْدِيلْ” وله قصصه وأدبه. والمدار في هذه المرحلة على كبريات “لحصي” وتسمى “لِمْدَارِيسْ” وواحدتها “مَدْراسَة” (براء مرققة). ولعل اللفظ اسم الآلة من درس الحرث، بجامع التقارب بين المهمتين. وتوسعوا في اللفظ فسموا الجَلْدَ باقتدار واستطالة “اتمدريس” أيضا.

تخترق “المدراسة” المادة في اتجاهات شتى فتخلصها من الغبار وغيره من العوالق، وتزيل تماسكها الذي يزيده التكويم بعد الجز. وما كان أحوج إليها الصوف المستقدم من مجازر السنغال (يسمى وبر انتافه) لكثرة عوالقه من الودح الدسِم والبشرات ذات الرائحة غير الشذية.

وشر خطر يهدد الصوف والوبر من الجز إلى الغزل هبوب الريح؛ خصوصا “ازعافگ” وهي زوابع تنشأ عن تيارين هوائيين متضادين متقاربي القوة، وتشبه الأعاصير جدا في شكلها وحركتها اللولبية، ومن الموريتانيين من يسمي واحدتها بالزوبعة. وقد انتبه إليها بعض الدارسين الغربيين فوجدوا فيها صورة مجهرية للأعاصير وانطلقوا في دراسة الإعصار منها.

ومن غريب الملاحظات أني لم أسلك الجزء الشمالي من السنغال (من اندر إلى النهر) من ارتفاع الضحى إلى العصر فغاب عني منظر “الزعافگ” حتى أصل الحدود!

ودأب النساء على تلاوة قول الله تعالى: ﴿إن يشأ يسكن الرياح﴾[9] تفاؤلا بهدوء الريح أثناء العمل في الصوف والوبر.

وإن أنس لا أنس منظرهما محمولين على بساط الريح ومساءة النساء جراء ذلك؛ حتى من لا شأن لهن به. وللريح الخطر نفسه على الكتب، وكان من المحظورات تركها دون إطباق وإحكام ربط أو إيعاء.

بعد هذه المرحلة يجعل الصوف – أو الوبر- في أوعية مناسبة دون ضغط؛ تمهيدا للعملية التالية.

تلي اتمدريس عملية لا تختلف إلا في حجم عصيها وخفة جهدها؛ ففيها تستخدم “احصه” متوسطة (تسمى “البَيْنَانِيَّة” تعبيرا عن ذلك) لإتمام المهمة وفتق ما قد تشابك بعد “اتمدريس” ومنها إلى مرحلة “اتشعشيع”. (قبل بروز المعنى الحديث لهذا اللفظ).

عند الغزل يعد الصوف والوبر بعُصَيَّة (احْصَه) أدق وألطف من سابقتيها، بزيادة الرش بالماء. وتسمى العصية المستخدمة هنا “شعشاعة”. وبعد أن تجوب المادة في اتجاهات شتى تجزأ فيطوى كل جزء برفق وعناية كما تنطوي أمواج البحر، ثم يجعل في إناء تجنبا لضغطه.

وها قد حان الغزْل.

 

المرحلة الحاسمة

بعد أن يجاد “اتْشَعْشِيعْ” الوبر أو الصوف – معزولا عن الأرض- زيادة في تنقيته ومرونته، وضمانا لانعدام أي تلبد فيه، يجري غزله فرديا أو جماعيا؛ بأن تغزله صاحبة الشأن بنفسها أو بإعانة من في حكمها من بنت أو أم أو أخت مثلا، وهنا يطول الزمن. أو تتشاركه النساء وهو الغالب؛ ويكون ذلك بإحدى طريقتين:

إرسال الخبطه (الخبطة عَلَمٌ على الجزئية المعدة للغزل في هذه المرحلة) بحيث تتلقى القرائب والجارات العمل في أماكنهن دون تنقل.

الاجتماع (التويزه) بحيث تتوافد النساء على صاحبة الشأن ويعملن في مكان واحد، ومن لم تستطع الحضور تلقت نصيبها في مكانها؛ و”التويزة” طريقة شائعة في أعمال نساء البيضان عموما، وبها تمكنَّ إنجاز الكثير في وقت قصير دون مشقة تذكر.

ومن المضحكات أن بعض الساسة الموريتانيين دأبوا على ذكر التعاونيات النسائية ضمن حصيلتهم، دون أن يفهموا أن جهد البيضانيات قام على التعاون والتآزر منذ القدم، ولا منة لأي كان عليهن في طريقة توارثنها عبر القرون!

تتذرع ذوات الحصافة بطرق شتى لأداء العمل دون حضور منتدى النساء، وإذا حضرن اعتصمن بالصمت في حدود الإمكان، لما عرف عن “التويزه” من سرعة نشر الأقاويل حقا أو باطلا؛ إذ تذهب كل امرأة بنصيبها مما جرى، ويكون في تقَصِّيه وتفنيده أو تصحيحه حرج ومشقة، خصوصا وأن من مساوئ الأخلاق تتبع الأقاويل (اتواگيف آسواغه).

ومن اطلع على مجرى الأمور في “التويزه” عذر النساء فيما ينشأ عنها من سقيم الخبر؛ فغالبا ما كن يتحدثن جميعا دون تناوب ولا إنصات يذكر، ويتبارين في رفع أصواتهن، ولو أنصت بعضهن لتعذر عليه التحقق مما يقال.

ومن حكيمات النساء من يحاولن شغل الألسنة بما يفيد؛ وغالبا ما كان بالخوض في السيرة النبوية التي برع فيها نساء الناحية التي نشأتُ بها حتى كادت تكون علما نسائيا فيها. وقد لا يخلو هذا من نوادر أسوق إحداها أدناه:

يقال إن امرأة ذات نصيب محدود من التعلم كانت تقع في أعراض الناس دون تورع، وكان هذا يسوء بعلها، وذات مرة نصحها (البعل) بتنظيف يدها بعد الأكل من بقايا الطعام؛ مستدلا بأن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان يلعق أصابعه حتى تحمر، فعلقت بما لا يحسن ذكره، فردها الزوج إلى أهلها ما دام الأمر وصل بها إلى هذا الحد.

بعد فترة طالت عليها واتتها فرصة أخرى، وبينما هي في “اتويزة” خاض النساء في السيرة النبوية فاختلفن في أمر ما وانقسمن واشتد الاستقطاب. كل ذلك والمسكينة لائذة بالصمت متنقبة – زيادة على ذلك- في انتظار انتهاء هذا الخوض، إلى أن استنجدت بها امرأة من أحد الفريقين فقالت بتحرج: دعيني عنك يا هذه، لقد طلقت من أجل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا أذكره بعدها إلا بالتي هي أحسن!

 

إسهام الرجال

كان للرجال إسهام في الأعمال النسائية يختلف من توفير المادة الأولية (الصوف والوبر هنا) إلى فتل الحبال باختلافها، إلى توفير من يقوم بالعمل، إلى إطعام “التويزه”. فقد يؤاجر ذو المروءة (صهرا كان أو غيره) من تشارك في العمل نيابة عنه، ويعبر عن هذا بأن فلانا “گعّد” لفلانة، وقد يذبح شاة للنساء العاملات. وأذكر هنا أنني ولداتي كنا – أيام بلوغنا- كثيرا ما نذبح شاة للتويزه، ونجلس للعب الورق أو “ظامه” قريبا منها تعرضا للطعام والشاي، في تطفل قد لا يخلو من المن والأذى!

وقد “تقصد” التويزة رجلا قدم عليها أو مر قريبا منها، فيكون عليه (خُلُقيا) إطعامها، وهي عادة شائعة، لكنها جزئية على ما يبدو، فلم أعرفها في نساء منشئي.

توضع لكل امرأة “خبطتها” فيقبلن على الغزل متسلحات بأعواد نحيفة نسبيا يناهز طول كل منها 30 سم، وفي نهايته عود معترض لتسهيل المهمة، ومنهن من تتخذ للمهمة ذاتها عودا منتهيا بما يشبه السنارة خلقة، ويجري الغزل بإدارة طرف العود الأعلى بين أصابع إحدى اليدين (كثيرا ما تكون اليمنى) بينما ترتب أصابع الأخرى المادة المغزولة، ويرتفع العود في دورانه كلما طال الخيط، حتى إذا لم يبق مزيد أدارته الغازلة معترضا فطوته برشاقة يبدو منها كالحمامة المنقضة، ثم أعادت العملية السابقة، وتظل بين رفع وخفض حتى يثقل الحاصل فتسل العود منه برفق وتعيد الكرة.

يتنوع الغزْل بين غلظ ورقة؛ فالأول يراد للنسج إسداء وإلحاما، والثانية تراد لرتق ما انفتق وتقوية ما ضعف، ومن أمثالهم أن الكبة الرقيقة تساوي الأخت الشقيقة، ويؤثر عن إحداهن القول: ليست أختي أنا فلانة.

 

بعد الغزل

يجمع خيطا غزل فيلفان معا، كلما انتهى أحدهما نيطت به بداية آخر، حتى تتكوم الحصيلة في كُبة كثيرا ما كانت متوسطة المقدار. (ونسيت القول إن القياس هنا بالرطل، وهو 450غ) ثم يجعل طرف الصرعين (والصرع فصيح) على عود لا يختلف بشيء عن مخوض اللبن، فيجمعان بطريقة فنية تتمثل في إمساكهما بأنامل إحدى اليدين عند منتهى ارتفاعها (مع الحرص على استوائهما حتى لا يكون الاعتماد على أحدهما فيضعف البناء) وإدارة العود بين الساق وكف الأخرى (اليمنَيَيْن غالبا) حتى إذا صارا خيطا واحدا لف على العود وكرر ما سبق.

يسمى هذا “ابريم الكبة” وتُجَلّي فيه المراهقات، ومن لا لوم عليهن في كشف الأطراف، وربما تسلت به راعيات الغنم (ولم أر ذكرا يعمله) ويندر أن تعمله الكرائم البالغات، لما يستلزمه من كشف الساق والذراع، وعند الاقتضاء يعملنه في الليل في جلسات صفاء وسمر.

بعدها تجمع الحصيلة في “ممحط” وذلك بأن يعقد رأس الخيط في نتوء ثم يدار من وراء آخر يبعد عنه أمتارا، قد يكون عمودا أو فرع شجرة أو جذعا لا غصون له، لكنه لا يكون ساق شجرة، ليمكن نزع “الممحط” عند الانتهاء. ويستمر الحال بالدوران بين النتوءين كلما نفدت كبة عقدت بها بداية أخرى حتى تنتهي المادة المعدة لذلك. وتسمى هذه العملية “التمشية” ويعبر عن المتردد جيئة وذهابا بأنه “امَّشِّي ممحط” لذلك.

ينتزع “الممحط” فيدار بقدر ما يمنع اختلاط خيوطه ثم يكوّم فينقع ساعات في الماء ويستخرج فيشد فويق الأرض بين وتدين أو نحوهما وتوضع عصا غليظة أو وتد في منتصفه فيلف بها حتى لا يبقى مزيد فتركز في الأرض، وتستمر إدارتها كلما سمح “الممحط” بذلك لإطالة الخيوط قدر الإمكان، وربما أفلتت العصا من يد مديرها فاندفعت تدور عكسا، وقد تصيبه بمكروه.

يعرف عن أهل تلك الحقبة أن غُسالة “الممحط” تسبب الثآليل، وأن المرور من فوقه تَعَرُّض للجن (أنه “مسكون”) ولعل هذا لإبعاد الصغار عن الإصابة به، ولصون جهد صاحبته.

 

النسج أخيرا

بعد حوالي أسبوعين عادة ينزع “الممحط” فيلف كببا كما كان من قبل؛ تمهيدا للإسداء، حيث يذرع خيط لتحديد الطول المطلوب ويمد فيدق وتدان حيث بدأ واثنان حيث انتهى، يعرض عمود قصير خلف كل منهما وتمد عصية (احصه) خلف أحد العمودين ودون الآخر، وتجلس امرأة عند كل من الطرفين، ويبدأ الخيط بالدوران بينهما منطلقا من فوق إحدى العصيتين عائدا من تحت الأخرى كلما نفدت كبة نيطت بها أخرى حتى يتم العرض المطلوب. وكن يقدرنه بالماره (بترقيق الراء) وهو لفظ يدل على 32 خيطا ويستوي فيه الجمع والمفرد.

بعد الإسداء يثبت نير متحرك ويلف خيط الإلحام مستطيلا على عصا لتسهيل مروره من اليمين إلى الشمال وبالعكس وتتولى المدرى “والصوصية” تسهيل اكتناز الخيوط  وشدة التحامها، ويسمى الحاصل “افليج”

تتألف الخيمة عادة من 8 “فلجة” و”حَلَّالتين” وهما بمثابة “افليجين” صغيرين تنتهي الخيمة بهما، ويستمر استجدادها من جهة القنة بإضافة الجديد من أعلاها وإزاحة البالي إلى أسفلها.. وهكذا.

(نقلا عن مجلة “الثقافة” الموريتانية)

* هذا حديث عفوي وليس بحثا علميا؛ وهي حقيقة لا يغيرها وجود الإحالات عند الاقتضاء. وتوخيا للدقة اقتصرت فيه على ما شاهدته دون ما سمعته.

** إعلامي وأستاذ، خبير لغوي موريتاني.

[1]. ديوان امرِئ القيس بن حجر الكندي، اعتنى به عبد الرحمن المصطاوي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1425هـ / 2004م، ص 105.

[2]. إذا ذكرت اسما شعبيا لمسمًّى ما فهذا لا ينفي وجود اسم آخر أو أكثر، إذ مهمتي هنا ليست حصر الأسماء ولا تتبعها.

[3]. مرتضى الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق مصطفى حجازي، وزارة الإعلام، الكويت، 1993، مادة “ب ي ت”.

[4]. ذكرت الصوف والوبر معا لاختلاف التسمية لغويا؛ فما ينمو على جلود الإبل والأرانب وبطون القنافذ يسمى وبرا. وما ينمو على جلود الضأن يسمى صوفا، وما سواهما يسمى شعرا. قال الله تعالى: ﴿.. ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين﴾. سورة النحل، الآية 80. (بالعد الكوفي).

ومن شواهد المَحاضر:

لإبل وأرنب يعزى الوبر والصوف للنعاج والباقي شعر.

وتتعلق بالشاهد نكتة لم أرد مزيد الإطالة بها.

[5]. كانت السكاكين تعد محليا (ومثلها المساريح) من حديد البراميل، وتكون مسطحة، وتقطع في اتجاهين.

[6]. الديوان، تقديم وشرح د. محيي الدين صبحي، دار صادر، بيروت، ط 2، 1429هـ/ 2008م 1/ 167.

[7]. الديوان، شرح أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 3، 1423هـ/ 2002م 3/ 217.

[8]. الديوان، شرح وتحقيق ذ. محمد عبد الله بن الشبيه بن ابوه، الناشر أحمد سالك بن محمد الأمين بن ابوه، انواكشوط، ص 421.

[9]. سورة الشورى، جزء من الآية 33. (بالعد الكوفي أيضا).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى